لماذا ممنوع علي القمم العربية والإسلامية أن تكون سياسية حقاً؟ مطاع صفدي قد لا تكون قمم الدول الإسلامية بأفضل أو بأسوأ كثيراً أو قليلاً عن زميلاتها القمم العربية لكنها من دون شك كانت عقيمة في كل دوراتها السابقة، بمعني التعقيم الذاتي الرافض للإنتاج علي كل مستوي؛ لم يكن لها ثمة صدي لدي أية جماهير عربية أم إسلامية. كأن تنعقد في عاصمة ما، ثم تلد بياناً لن يقرأه أحد. هذه الصيغة التي لم يسمح لها بالظهور إلاّ خلال أواخر الحرب الباردة، لتكون عوناً للمرجعية العربية علي خصومها العروبيين واليساريين، الذين هم بدورهم نظروا إليها كما لو لم تكن موجودة، ولن تكون موجودة. غير أنه مع تغير الأحوال الدولية، واختفاء البعبع الشيوعي، وانخراط الغرب الأمريكي في ملاحقة أتباعه وحلفائه، ومحوهم من الخارطة العالمية، وبروز الحاجة إلي اختلاق العدو الكوني الجديد ل(العالم الحر)، تكونت استراتيجية جديدة علي أساس إعادة أسلمة المجتمعات المتمردة في القارة العربية الإسلامية، الحاملة لهذا الاسم وحده دون مضمونه النظامي والطقسي، طيلة مرحلة الاستقلالات الوطنية التي شغلت بها طلائع الشعوب المستعمرة. إذ كانت طبيعية هذه المرحلة القائمة علي محورية التحرر الوطني تفترض الحيادية بالنسبة للعقائد الموصوفة بالغيبية. فالهم الأول المحرك للطلائع آنذاك ينحصر في التخلص من استعباد احتلال الأجنبي للوطن والإنسان. ويمكن القول أن معظم الشعوب المتحررة اندفعت إلي إنشاء دول (حديثة) تتبع النموذج الغربي السائد الأقرب إلي العلمانية. وقد شُغلت هذه الدول الناشئة بهدفي التنمية لأحوال مجتمعاتها المتخلفة عموماً وسبل الدفاع عن استقلالها. وأما الانتماء الديني فكان شأناً شخصياً وفردياً. ولم يتطور إلي طابع الأدلجة العقائدية الشاملة للقطاعات الجماهيرية الواسعة إلا تدريجياً، ومع انهيار ثقافة (العالم الثالث) ومرتكزاته الفكرية والسياسية، ومع فشل نموذج الدولة العالمثالثية عينها في ثنائيتها التحديثية: التنمية الاجتماعية السليمة والحفاظ علي الاستقلال الوطني. كان ذلك هو الفراغ السياسي والعقائدي الذي آلت إليه تجربة العالم الثالث، وقد استغلته حملة منظمة من الجمعيات والمؤسسات المتخصصة بتقنيات متطورة، رافعة لشعار إعادة أسلمة المسلمين، بإخضاع شرائح كبيرة لعمليات غسيل دماغ، وتكوين شخصية طقسية بديلة عاكسة لمذهب أو طريقة مستوردة من قبل الجزيرة العربية. تلك هي الإسلاموية الجديدة التي ينبغي أن ترث يسارية أو قومية حركات التحرر الوطني، باستخدام كل طرق التحشيد والانتشار وتكوين شبكيات الدعوة ومراكزها الرعائية؛ إذ ينبغي التفريق بين الإسلام المتوارث تلقائياً في مجتعاته، وبين الإسلام التبشيري الآخر المحمول علي تأويلات مذهبية معينة، والمنتشر بواسطة مؤسسات احترافية لتخريج (الدعاة) النمطيين. فهؤلاء بدورهم يخرّجون أجيالاً نمطيين علي شاكلتهم. ظاهرة إعادة أسلمة المسلمين وسواهم، تهدف أصلاً إلي إبدال صيغة التحزيب السياسي بالتحزيب الديني. لكن صفة (الديني) هذه لن تكون غريبة علي السياسة، بل كان يراد منها طرد نوع السياسة السائدة في مرحلة التحرر الوطني وبناء الدول المستقلة النامية، والحيلولة دون عودة التدخل الاستعماري الجديد في شؤون تطورها وسيادتها الحقيقية. فلقد احتاج تحالف القوي التقليدية المحلية مع تدخلات الاستعمار الجديد إلي اعتماد التدين النمطي والطقسي كإيديولوجيا سياسوية تقف في مواجهة اليساريات والقومويات الصاعدة، والحائز بعضها علي سلطة الحكم في هذه الدول الناشئة، والمتعثرة الخطي دائماً، لوقوعها بين شقّيْ الرّحي بين قطبي الحرب الباردة المنقسم إليها عالم النصف الثاني من القرن العشرين. قد تكون الدائرة الإسلامية سنداً للدائرة العربية، كما تصورها اصطلاح الثقافة التحررية في تلك الحقبة المديدة، لكن المتغيرات السلبية المتلاحقة علي الدائرة الأولي، واستفحال أسباب الشقاق بين أقطابها، ومع انسداد كل أفق تقدمي حقيقي في مسيرتها جميعاً، لم يعمل فحسب علي إفراغ الشعارات التحررية من مضمونها المدني والعسكري والاجتماعي، بل ساهم في إحباط كل أشكال التضامن والتكامل بين مفرداتها. فلم تنفع صيغة مؤتمرات القمة في تلافي الكوارث الجماعية، وإن حاولت الإبقاء علي شكليات التلاقي الروتيني بين أقطاب المعسكرين اللذين انقسم إليهما النظام العربي الحاكم، تحت شعارات الحرية والتقدم من جهة، والرجعية والتبعية من جهة أخري أما الدائرة الإسلامية فلم تكن أحوال دولها بأفضل أبداً من أخواتها العربيات، إن لم تكن هي الأسوأ، وخاصة في النطاق الأفريقي الأسمر، وصولاً إلي المرحلة الراهنة التي يتتابع فيها الإجهاز علي (تراث) العالمثالثية جملةً وتفصيلاً. دون أن ننسي أن مجموع الدول العربية والإسلامية البالغ سبعاً وخمسين، أقل أو أكثر قليلاً، كان يغطي معظم المساحة الجغرافية والبشرية للعالم الثالث. ما يعني أن هذا التصنيف التابع لخارطة الحرب الباردة قد انقضي بانقضائها. وأن العولمة المجتاحة لحاضر المعمورة قد جرفت رموز الكتل الدولتية الماضية، لكنها دون أن تعيد إلي كل كيان فرادته الخاصة، بل تتمادي في طمس شخصيته وبعثرة مكوناته، تمهيداً لإغراقه تحت تماثلية الفراغ، وتحويله إلي مجرد رقم أو رمز في حاسوبها المطلق الجبار. لكن هذا الحاسوب الهائل هو الذي عليه مجدداً إحياء سلطة الاستقطاب الثنائي لجغرافية العالم السياسية، ما بين الغرب الذي يسمي نفسه بالعالم الحر، وبين الإسلام الذي يحل مكان الشيوعية. مع الفارق أنه إذا كان ذلك العالم الحر قد قضي علي النازية والفاشية ومن ثم الشيوعية، فإنما كان يحارب إيديولوجيات أنتجتها ثقافته هو بالذات، بينما الإسلام هو حضارة تحياها ثلث الإنسانية منذ ألف وخمسمئة عام. وقد لا تكون أوروبا منجرّة تماماً وراء الأمركة في طبعتها المتصهينة الراهنة، لتدخل معها صراعاً عبثياً ضد ذلك الإسلام الذي تعرفه جيداً منذ حروبها الصليبية، ومن ثم مع حقبة استعمارها الحديث؛ ولا يزال الإسلام يطوقها جنوباً وشرقاً، وراح أخيراً يداهمها بهجراته المتلاحقة في عقر دارها. فإن لأوروبا تراثاً ذاكرياً حافلاً متداخلاً مع تاريخها، عاشته مع الإسلام، ولا تعرفه أمريكا. فلا يمكنها أن تصطف وراءها بتبعية غبية، وخاصة فيما لا تراه حتي الآن سوي دعوات دونكيشوتية؛ هذا بالرغم من تهويلات (الإسلام فوبيا) التي أمست آخر حملة دعاوية شعواء تشنها العولمة الأمريكية المتصهينة، تغطيةً لمسلسلات الإخفاقات العسكرية والسياسية للمرحلة البوشية الآفلة. لقد جعلت القمة الإسلامية من هذه (الهستيريا) محورها الرئيسي. لكنها كعادة القمم هذه، عربية كانت أم إسلامية، لم تسمح لذاتها بمقاربة لجذور المشكلة، لم تطرح علي نفسها السؤال المباشر: لماذا يخافون من الإسلام، وأي إسلام هو الذي يخيف الغرب. إن إعادة أسلمة المسلمين علي الطريقة المذهبية والنمطية الطقسية، هي المسؤولة أولاً عن إفراز واقعتين متناقضتين في وقت واحد، ففي الضفة الإسلامية عامة برزت ظاهرة الإرهاب وكأنها رد غير مباشر علي توظيف الدين في خدمة العجز السياسي الأخير الذي انحدرت إليه الأنظمة الحاكمة واستسلامها الكامل للغرب الأمريكي تحديداً. وعلي الضفة الغربية جري حصر التعامل الإسلامي من وجهة التحريف الإرهابي وحده الذي احتكر أمثلة الحضور اليومي في الشارع الغربي، مع فرض مظاهر الطقسنة والنمطية الغربية التي تتبدي من خلالها مسالك بعض المهاجرين. الأمر الذي يضاعف من مشكلات الاندماج المستعصي، ويوسّع من عوامل التنافر والتباعد مع السكان الأصليين. ومع أن ظاهرة الإسلامي (الإرهابي) قد انحسرت تقريباً من عواصم الغرب، وانكفأت (إنجازاتها) إلي داخل العالم العربي والإسلامي، إلا أن الذئب لا يكف عن اتهام الحَمَل بتعكير صفو ينبوعه. فالإسلام يظل متهماً غريباً مع الرفض المتعمد للتمييز بين ظواهره. وكذلك صار دأب الأنظمة الحاكمة محلياً، حتي وصل الأمر بأحوال الجماهير المضطهدة إلي التوحيد النظري والعملي بين السياسة المتمردة ومختلف أشكال التدين الجماعي. ولا يزال تصاعد الهجمة الأمريكية الامبريالية ضد مختلف حركات التحرر، بل ضد نوازع الإصلاح السلمي، في طول المساحة العربية والإسلامية، هو الدافع المادي المباشر إلي تديين السياسة في كل مكان. بالمقابل تشتدّ عزلة الحركات العلمانية إلي الحد الذي صار من السهل اتهامها بالارتباطات الأجنبية. أو أنها تنحرف تلقائياً إلي النزعات الليبرالية الجديدة المتحالفة في طبيعتها مع مصادرها الخارجية، والأمريكية تحديداً. خلاصة القول ان هذا العالم العربي الإسلامي بإمكانياته الهائلة من كل نوع بشري حضاري ومادي، ما زال مفكك الأوصال، فاقداً حقاً لأبسط نوازع الهوية الحداثوية الواعية لأدوارها بالنسبة لذاتها، وللتحولات الكونية الجبارة المستدامة حولها، والمهاجمة لها، والمخترقة لدفاعاتها القروسطية حتي الآن. حتي الدين فإنه خاضع للتعامل معه بأساليب الانحطاط والتخلف عينها التي تسود مجتمعاته. وفي اللحظة الحديثة الراهنة لا يبدو أن انعقاد القمتين الإسلامية ومن ثم العربية خلال شهر واحد، مبشراً بأية تغييرات جدية علي مستوي الوعي أو الممارسة بالنسبة لمعالجة جذور الاستعصاءات البنيوية التي توحد هذه المجتمعات، أكثر مما توحدها عمليات النهوض المتكاملة، بل المتعثرة حتي الآن، ولأسباب الانحطاط عينها في الذات قبل أن تأتي من العدو الخارجي وحده. وإلي حين تستيقظ الإرادة الحداثوية الجديدة، فإن هذا العالم العربي الإسلامي، لن يستطيع أن يملأ تسميته الكبري هذه إلا بأمثلتها المضادة لمعانيها ورموزها. عن صحيفة القدس العربي 17/3/2008