لا حلول عسكرية لأزمة لبنان محمود الريماوي لم يكن ينقص توتر الوضع في لبنان سوى اقتراب مدمرة أمريكية من السواحل اللبنانية. الخطوة جاءت مفاجئة حتى إن أوساطاً لبنانية رسمية عبرت عن دهشتها إزاء هذه الخطوة التي تمت من دون مقدمات كما تحدث بذلك أحد وزراء الحكومة (وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية جان أوغاسبيان الجمعة الماضية). ورغم أن القطع البحرية ليست مرئية إلا أن تأثيراتها ملموسة على الوضع السياسي، وتوفر مادة جدية وغنية للسجالات التي لم تهدأ بين الفرقاء المتنازعين. كما تؤشر على مناخ التوتر المتصاعد في المنطقة وذلك في ضوء الانسداد السياسي في العراق وفلسطين، والتوتر الذي يزداد وضوحاً وحساسية في العلاقات العربية، وتحذير ثلاث دول عربية لرعاياها من التوجه الى لبنان. وإذا كان هناك قدر من الغموض يحيط بالمرامي “العسكرية" لتقدم البارجة “كول" من سواحل لبنان، فالهدف السياسي أقل غموضاً إن لم يكن على درجة من الوضوح. فقد تحدث مسؤولون وناطقون أمريكيون عن الطابع “الرمزي" للإجراء وعن “إخافة سوريا" و"الضغط المستمر على الحكومة السورية"، ومن هؤلاء نيكولاس بيرنز مساعد وزيرة الخارجية للشؤون السياسية. وهذا أول إجراء ذي طبيعة عسكرية تقدم عليه الولاياتالمتحدة، منذ تفجر الأزمة السياسية في لبنان قبل نحو ثلاث سنوات، مع اغتيال رفيق الحريري وما أعقبه من خروج القوات السورية بعد ثلاثة عقود على وجودها هناك. وكانت واشنطن أيدت عدوان تموز/يوليو 2006 وأمدت القوات المعتدية بقنابل “ذكية" في غمار الحرب، ثم لامت واشنطن قادة الكيان على سوء أداء جيشهم في تلك الحرب التي طالت المدنيين ومرافق مدنية بصورة لا سابق لها في التعديات “الإسرائيلية" الدورية على هذا البلد. وكان أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله قد حذر من احتمال شن اعتداء جديد على لبنان، وذلك في خطاب ألقاه بمناسبة مضي أسبوع على اغتيال القائد في الحزب عماد مغنية في قلب العاصمة السورية، وحذر نصرالله بالمناسبة من حرب مفتوحة سوف يلجأ الحزب اليها إذا ما وقع بالفعل عدوان جديد. التتالي في هذه التطورات ينبئ برابط بينها. مع التذكير ان قوات المارينز سبق ان تعرضت لتفجير مقرهم في العاصمة بيروت مطلع الثمانينات، وهو ما قد يدفع للتخلي عن أي مغامرة عسكرية، كما قد يدفع الإدارة الأمريكية الحالية التي لم تبرأ من عسكرة سياستها الخارجية إلى محاولة الانتقام بعد زهاء قرن، غير أن ذلك لو تم التفكير به، فسوف يتعارض مع دعوات أمريكية متكررة لإعادة الاستقرار لهذا البلد، وانتخاب رئيس جديد. غير أن الانعكاسات الداخلية لهذا التطور لن تتأخر في الظهور. فأطراف الأكثرية النيابية سوف تتعرض لحرج شديد من إقدام واشنطن على هذه الخطوة، في ما يقدم دفعاً لاتهامها من طرف المعارضة بالاستقواء بالخارج وبالذات من الولاياتالمتحدة وفرنسا، فيما أكثرية للبنانيين سوف تجد في ما يجري في عرض البحر المتوسط وما قد يليه، نذيراً بتفجر الوضع الداخلي ورفع التوتر السياسي إلى درجة التأهب الأمني، وذلك في غمرة الحديث عن اندفاع على التسلح، يشمل معظم الأحزاب والجماعات السياسية والطائفية. ومن الواضح أن هذه المحاذير تتعدى حدود الأراضي اللبنانية. ليس هناك في الأدبيات الأمريكية حديث يذكر أو إشارات ملموسة، عن خيار تدخل عسكري في لبنان. غير أن هذا البلد لم يكن خارج مطامح مد دائرة النفوذ الأمريكي في المنطقة ومنذ نحو نصف قرن على الأقل، منذ محاولة زج لبنان في حلف بغداد لمواجهة النفوذ السوفييتي وما أعقب ذلك من “ثورة" في العام 1958 فتحت الباب أمام تسوية تولاها الرئيس الراحل عبدالناصر مع الولاياتالمتحدة وأتت بقائد الجيش آنذاك فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية خلفاً للرئيس كميل شمعون الشديد القرب من الغرب، فكانت حقبة الستينات لدى ولاية شهاب هي أكثر فترات الازدهار اللبناني الاقتصادي والثقافي والإعلامي والسياحي وإن اتسمت بسطوة أمنية غير ظاهرة ل"المكتب الثاني الاستخباراتي". يفترض في هذه الحقبة أن أحداً لا يريد مواجهة، بما في ذلك واشنطن الغارقة في وحول العراق وأفغانستان. تصعيد الحلول الوفاقية بإرادة اللبنانيين والحد من التأثرات الخارجية، هو ما يفتح حقا طريق السلم الأهلي وإحياء المؤسسات الدستورية. فيما التراشق بالاتهامات قابل بطبيعته لأن يتناسل ويظل بلا نهاية، من قبيل دمغ الأغلبية بالفئوية وموالاة الغرب، واعتمادها عليه وتجييش أساطيله، وعلى مثال تسمية المعارضة بأنها دائرة في الفلك السوري الإيراني وتواصل تقويض الدولة ولا تملك قرارها الذاتي. ذلك أن المحك في النهاية هو تفادي تعريض البلد، لمخاطر الاحتراب والتفتيت واستدعاء المزيد من التدخلات. وبدلاً من رمي الخصوم بأقذع الاتهامات والتصنيفات، وعوض امتداح الذات وتنزيهها عن الأخطاء، فإن الفيصل الذي يعول عليه هو التمسك بنازع إيجابي يفتح الطريق إلى الحلول، وينتصر لأشواق اللبنانيين في الكرامة والأمن وبناء دولتهم، وإعادة الحياة الطبيعية بجميع مناحيها. وهو ما يتطلب الأخذ بمنطق التسوية الداخلية، فقد تكون أية تسوية مع الخارج غير مقبولة، بخلاف تلك الداخلية التي توفر مناخاً للسلم والازدهار كما تدل تجارب الدول والمجتمعات. عن صحيفة الخليج الاماراتية 3/3/2008