حول منع الشيخ القرضاوي من بريطانيا والرسوم المسيئة د. عبد الحميد الأنصاري فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي عالم جليل له كل التقدير والتكريم والتبجيل، و نحن إذ اختلفنا معه في مواقفه السياسية تجاه الغرب- عامة - وأميركا - خاصة - فإن هذا لايقلل من احترامنا له والإشادة به، ولا ينقص من قدره كون بريطانيا منعت دخوله أراضيها، لأن بريطانيا منعت دخول رموز دينية عديدة في إطار سياسة جديدة اتبعتها مؤخرا، ولا يعنينا في هذا المقام معرفة الاسباب التي اعتمدتها بريطانيا في قرار المنع فكل دولة حرة في اتخاذ القرار المحقق لمصلحتها مما يعد شأنا داخليا خاصا بها ولأنه سبق أن منعت كل من أميركا ودولة الامارات دخول الشيخ اليهما، كل لأسبابه الخاصة ولم يقلل ذلك من مكانة الشيخ في نفوس أتباعه ومريديه. ومن هذا المنطلق أتصور أن الشيخ القرضاوي لم يكن بحاجة إلى اعتصام مريديه وأنصاره أمام السفارة البريطانية في الدوحة في يوم عاصف مغبر، مرددين هتافات، وحاملين لافتات تتضمن شعارات تعبر عن التضامن مع الشيخ وتحتج على القرار البريطاني بوصفه قرارا متعسفا من قبيل (مستر براون: لماذا ترفضون التسامح والحوار؟) و(مستر براون: كلنا قرضاوي) و(التراجع عن القرارات تصحيح العلاقة مع العالم الإسلامي). حقيقة لا أفهم ماذا تريد هذه الشعارات المرفوعة. فأولا: قرار المنع لا علاقة له بالتسامح والحوار وإنما يتعلق بأسباب سياسية. وثانيا: لا أظن أن هؤلاء المعتصمين يقصدون بشعارهم (كلنا قرضاوي) أنهم سيتضامنون مع الشيخ في مقاطعتهم لزيارة بريطانيا مستقبلا. وثالثا: لا يمكن اختزال علاقة بريطانيا بالعالم الإسلامي في أمر يخص شخصا واحدا مهما علا مقامه فالمصالح الدولية تعلو المصالح الشخصية. كما ان العلاقة لم تكن على أحسن وجوهها على امتداد السنوات التي كان الشيخ يزور فيها بريطانيا ويطوف بها، اضافة إلى أنه - وهذا هو الأهم لا يشرف الشيخ ان تتراجع بريطانيا تحت الضغط والاحتجاج والتهديد إذ ليس من باب الإكرام زيارة قوم وهم له كارهون وكان الأليق والأكرم أن يقول هؤلاء المحتجون إذا كانت بريطانيا لا تريد شيخنا مرة فنحن لا نريدها عشرات المرات وإذا كانت تمنع دخول شيخنا فنحن لن ندخلها أبدا ما دام هذا موقفها. أما التوسل بوسطية الشيخ واعتداله فهذه من الأمور الاجتماعية المتعلقة بحقوق المرأة والحريات الدينية لكنها لا تمتد إلى المواقف السياسية من الغرب وأميركا لأن الشيخ دائما يؤكد في خطبه واحاديثه على عدواة الآخر الغربي للإسلام والمسلمين. والسؤال المنطقي لهؤلاء الحريصين على إلغاء بريطانيا قرارها المانع: إذا كان الغرب عدوا، لماذا الحرص على الذهاب اليهم؟! أما حجج كون منع الشيخ من دخول بريطانيا يعرقل (حوار الأديان) أو بحسب تعبير المحامي د. النعيمي(إن الشيخ شخصية عامة ومن واجبه أن يتواصل مع أبناء الجالية الإسلامية في مهامه الدعوية) فقرار المنع لا يحول دون ذلك في عصر الفضائيات وشبكة الانترنت إذ إن الشيخ يستطيع التواصل والحوار عبرهما لتوصيل أفكاره إلى عقر دار بريطانيا. ومع إني لا اتفق مع قرار منع الشيخ أو غيره من دخول بريطانيا أو غيرها إلا إذا شكل خطرا امنيا فإني اتصور ان اسلوب الاعتصامات والاحتجاجات والمسيرات التي صرح الدكتور النعيمي بتسييرها عقب صلاة الجمعة ليس أسلوبا سليما في معالجة مثل هذه القرارات هناك أسلوب قانوني بالطعن في القرار كما أعلن عنه منتصر الزيات بأنه سيفعله بمناسبة قرار منعه هو الأمثل والأجدى. مثل هذه الأمورتحتاج إلى الهدوء والروية والتعامل القانوني السليم. وبهذه المناسبة اتساءل حول مدى ملاءمة الدكتور النعيمي الذي أعلن نفسه محاميا للشيخ لهذه المهمة وهو الذي كان محاميا لصدام ومدافعا عن القاعدة في احدى الفضائيات!! على هؤلاء الذين اعتصموا واحتجوا أن يتفهموا ظروف التشدد البريطاني في منح التأشيرات والمرتبطة بالوضع المتأزم هناك وأتصور ان هذه الظروف لن تستمر طويلا وستنجلي. وسيبقى أن أقول: لا يحزنك أيها الشيخ الجليل سوء هذا القرار فأنت أكبر من ذلك واتمنى ألا تسمع لأقوال هؤلاء المريدين الذين يظنون أنهم بمواقفهم الانفعالية يرضونك وهم إنما يرضون عواطفهم وهم لا يشعرون، وعليك بنصيحة شيخ الأزهر الذي أبدى غضبه من القرار وناشد الشيخ القرضاوي بالتوجه للعلاج في أية دولة أخرى لا ترفع العداء للإسلام. هذا أفضل من التصعيد الذي لا يستفيد منه الا دعاة الكراهية والتطرف. لقد أردت بهذه المقدمة الطويلة والضرورية أن أخلص للقول لهؤلاء المحتجين الذين اعتصموا أمام السفارة البريطانية في ذلك اليوم الأغبر وفي سابقة غير معهودة من قبل، هلا اعتصمتم واحتججتم وانشغلتم بمسألة إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وللإسلام وهي القضية التي تمس المسلمين جميعا ولا تمس شخصا واحدا!! ألم يكن ذلك أجدى وأليق؟! نعم قضية إعادة نشر الرسوم المسيئة في (17) صحيفة دنماركية تشغل اليوم شعوب العالم الاسلامي ودوله وهي قضية تستحق (وقفة) عقلانية من الجميع ولعلنا نتذكر تلك المسيرات الجماهيرية التي امتدت في أرجاء العالم الاسلامي احتجاجا وغضبا عقب نشر تلك الرسوم في صحيفة دنماركية مغمورة في سبتمبر (2005). لقد كانت الإساءة حينئذ، عملا فرديا محصورا، لكن تمت مقابلته بمسيرات ضخمة محتجة تخللتها أعمال عنف وفوضى وتشنجات واحراق اعلام واعتداء على سفارات وقتل أشخاص ومهاجمة كنائس واشعال حرائق فيها غير التخريب والتدمير وغير الجرحى وتهديد رعايا الدول الغربية مما أساء إلى صورة الإسلام والمسلمين بأكثر مما يحقق ردعا للسفهاء هناك وإذ نشطت حركة مقاطعة شعبية للبضائع الدنماركية المتمثلة في مشتقات الألبان لكنها أضرت بالمصالح التجارية الوطنية - أيضا - ومع ان التصرف كان فرديا والصحيفة قد اعتذرت إلا أن مشايخ التحريض أفتوا بأن المقاطعة التزام ديني وان الشعوب غير ملزمة بالاتفاقات بين الدول ولم تفلح الاعتذارات التي تكررت ونشرت في الصحف العربية ولا مجيء منسق سياسات الاتحاد الاوروبي (سولانا) معتذرا وقائلا إن أوروبا لا تؤيد الرسوم المسيئة ولا كذلك استنكار رئيس مجلس الكنائس العالمي الذي أدان هذا العمل السفيه ولا تصريح بابا الفاتيكان في رفضه للإهانة في زحزحة دعاة الكراهية والمقاطعة ومثيري الشغب عن التنازل عن مواقفهم. وكتبت في وقتها اكثر من مقالة منتقدا التجاوزات والعناد وقلت: هاتوا لي مبررا واحدا شرعيا أو مصلحيا لمعاقبة شعب بأكمله بفعلة صحيفة سيئة وقلت ان اضرار المقاطعة والتخريب والفوضى لن يفيد منها الا دعاة الكراهية في الجانبين: الاسلامي والأوروبي. وذكرت ان ما هو الأسوأ من عمل حمقى الغرب العداء الاعمى للغرب، وقد تحقق ما خشيت منه وحذرت، فهذا الذي نحصده اليوم هو بعض ثمار تلك التصرفات اللاعقلانية بالأمس، لقد تكالب سفهاء القوم هناك واجتمعت إرادة (17) صحيفة دنماركية على اعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وهم إنما أساءوا إلى أنفسهم وما يشعرون، وذلك في حركة متعمدة لاستفزاز مشاعر المسلمين وفي اصرار على الإساءة للدين الإسلامي ومن غير أي سبب يبرر هذه الإساءة غير التظاهر الزائف بأنه لا أحد يركعها من اي ديانة كانت خاصة من المسلمين في تضامنها مع الرسام النكرة في حرية التعبير، ومن المؤسف حقا ان تصبح حرية التعبير التي تتباهى بها أوروبا منزلقا إلى مستنقع الكراهية والإساءة إلى أكثر من مليار ونصف المليار مسلم. لقد استنكرت رابطة العالم الإسلامي هذا العمل السفيه كما أدان اكثر من (150) عالما هذا التصرف البذيء مطالبين الحكومة الدنماركية بإجراءات لمنع تلك الإساءة كما أصدرت العديد من المنظمات واللجان الداعية لنصرة النبي صلى الله عليه وسلم بيانات الاستنكار ولكن اللجنة العالمية لنصرة خاتم الانبياء ولأول مرة لم تصدر أية بيانات رغم أنها الاقدم في هذا المجال منذ عام (2002) وعلل أمينها العام بأن الأزمات الماضية علمتنا أن لا فائدة من بيانات الشجب والاستنكار وأن تجاهل ما يقوم به (سفهاء الغرب ومتطرفوه هو الرد المناسب) وموضحا ان تلك الحملات هدفها تحقيق ردة فعل المسلمين العنيفة لاستغلالها ضد الإسلام لذلك علينا تجاهلها من منطلق ان الشخص الذي يرسمونه ليس رسول الله بل هو شخص يعرفه أو ابتدعه هؤلاء السفهاء. كما يلاحظ ان بيان رابطة العالم الاسلامي طالب بعدم الانجرار للاستفزاز ودخول دومات ردود الافعال الانفعالية وأن رسالة الاسلام رسالة عالمية وانسانية خالدة وقد تكفل الله بحفظها، كما دعا د. أنس الشقفة رئيس الهيئة الدينية الرسمية للمسلمين في النمسا: للتعامل في مثل هذه القضايا المثيرة بعقلانية وحكمة ومخاطبة العقل الأوروبي باللغة التي يفهمونها دون تشنج وعصبية محذرا بأن هناك أيدي خفية تريد ان تلعب بعواطف المسلمين وتعمل على تهييجهم. ختاما الاستنكار واجب والغضب مشروع والاحتجاج مطلوب والمسيرات السلمية مشروعة لكن كل ذلك في اطار العقلانية وعدم الاضرار بأنفسنا، وعسى ان نتعلم هذه المرة من الدروس الماضية. عن صحيفة الوطن القطرية 25/2/2008