من غزة إلى لبنان .. مقدمات لتسخين جديد د. إبراهيم عرفات تروي نكتة مصرية عن نكسة 67 أن المشير عبد الحكيم عامر، وكان وقتها وزيراً للحربية، شعر بوخز في صدره وبدت على وجهه علامات الألم. فسأله أحد معاونيه: «ما لك يا فندم؟» فقال: «لا أبداً يا بني. دي غزة وراحت». ولم تكن «الغزة» التي راحت إلا قطاع «غزة» الذي كانت مصر تديره منذ نكبة 1948 وضاع مع سيناء المصرية في حرب 67. وإذا كانت غزة قد راحت في النكتة وبقي عامر، فإن الواقع جاء على النقيض حيث راح عامر وبقيت غزة إلى اليوم كالإبرة: تؤلم أهلها وتوخز جيرانها. وأحدث وخز منها وقع قبل أسابيع قليلة حينما اندفع أكثر من ثلاثة أرباع سكان القطاع المقدر عددهم بمليون ونصف المليون إلى داخل الأراضي المصرية. وبسبب هذا الاندفاع وجدت مصر نفسها أمام أزمة لم تصنعها وإنما أُلقيت عليها من قبل إسرائيل وحماس، وفتح كذلك. فإسرائيل تعمدت خنق القطاع بكل الصور الممكنة على أمل أن تدفعه للالتحام اقتصادياً بمصر والذوبان فيها وفقاً لخطة كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون قد وضعها كما نشر ذلك مؤخراً كاري سوسمان المتخصص في الدراسات الشرق أوسطية بجامعة تل أبيب. ثم ارتأت حكومة أولمرت أن الوقت بات مناسباً لتنشيط الخطة، فحاصرت القطاع وقطعت عنه كل احتياجاته كي تُجبر فلسطينيي غزة على البحث عن احتياجاتهم الاقتصادية في مصر على نحو يفتح الباب بالتدريج أمام توطينهم في سيناء. وهو قسم واحد من سيناريو يقول سوسمان إن إسرائيل تخطط لتطبيقه أيضاً مع فلسطينيي الضفة لتلحقهم بالأردن حتى تصفي القضية الفلسطينية نهائياً. هذا عن إسرائيل. أما عن حماس، فقد أعطت بصواريخها العقيمة لإسرائيل كل الذرائع التي تحتاجها لتشديد الحصار على القطاع ودفعه دفعاً لوخز مصر. ثم تأتي فتح التي واصلت تعنتها إزاء الحوار مع حماس ووضح أنها تفضل مشاهدة الحركة الإسلامية وهي تستفز إسرائيل بصواريخها وتغضب مصر بانتهاك الحدود على أمل أن يدفع ذلك بأحد البلدين إلى التدخل والقضاء على ما تعتبره فتح عدوتها الفلسطينية اللدود. ولم يكن بمقدور مصر عندما ألقيت المشكلة أمام أقدامها أن تركلها بعيداً، وإنما عملت على احتوائها على خطوتين. فتغاضت أولاً عن الطريقة التي فتحت بها حماس حدود غزة مع مصر، وسمحت لسكان القطاع بالدخول ونقل ما يلزمهم من احتياجات. ثم عادت في خطوة تالية، بعد أن امتلأت مخازن غزة، فأحكمت غلق حدودها. وكان التصرف المصري مفهوماً. فمصر كانت مطالبة بتحمل مسؤولياتها القومية إزاء سكان القطاع بعد أن جوعتهم إسرائيل وحاصرتهم. لكنها كانت أيضاً مطالبة بحماية أمنها الوطني بعد أن وجدت مئات المتسللين يذهبون بعيداً إلى عمق الأراضي المصرية كان بعضهم يحمل السلاح. وكشف الموقف بلا لبس عن وجود تعارض بين الواجب القومي والمصلحة الوطنية. وهي ليست مشكلة تخص مصر وحدها وإنما تحد تواجهه معظم البلدان العربية، حيث إن الأمن القومي العربي من جهة والأمن الوطني لكل دولة عربية منفردة من جهة أخرى ليسا دائماً على وفاق، وإنما كثيراً ما يتعارضان ويتصادمان. وحتى لا تجور المسؤوليات القومية على الواجبات الوطنية، أو تطغى المصالح الوطنية على الالتزامات القومية، دخلت مصر مع ممثلي حركة حماس في حوار مازال جارياً من أجل ضبط الحدود بين غزة والأراضي المصرية. ولا يعني ذلك بحال من الأحوال أن الأزمة قد انتهت وأن الضجة بشأن القطاع في سبيلها إلى التراجع. بل إن هناك مقدمات تنم عن أن كرة النار سوف تتدحرج من جديد. لكن يا ترى في أي اتجاه؟ هذا ما لا نعلمه. فكل المشكلات العالقة بين فتح وحماس، وبين إسرائيل وحماس، وبين فتح وإسرائيل، وبين مصر وحماس لا تزال على ما هي عليه. ومحصلة التفاعل بينها كلها تنذر بمشكلة قادمة. فلو ظلت حماس محاصرة في غزة دون أن تسوي خلافاتها مع فتح ودون الاتفاق على هدنة من أي نوع مع إسرائيل، فلن يكون أمامها إلا إعادة الكرة من جديد بمحاولة الدخول عنوةً إلى الأراضي المصرية. غير أن المرة الثانية لن تكون كالمرة الأولى، لأن القاهرة أعلنت أنها لن تترك أمنها الوطني عرضة للتهديد بحجة أن الواجب القومي العربي كما تحدده حماس يتطلب ذلك. وهو وضع يدعو إلى الخشية لأن الزمام لو فلت على الحدود بين مصر والقطاع من جديد فسوف تقع مواجهات تسيل فيها دماء عربية بأياد عربية. وهناك مقدمات أخرى للتسخين غير مسألة حدود القطاع مع مصر. فهناك القذائف التي تواصل حماس إطلاقها على جنوب إسرائيل رغم عدم جدواها بل وخطورتها. وقد تناقلت تقارير صحفية إسرائيلية قبل عدة أيام أن الجيش الإسرائيلي يخطط لتنفيذ عملية برية واسعة في قطاع غزة لمنع سقوط تلك القذائف نهائياً. ولفتت تلك التقارير الانتباه إليها بعد أن أكد وزير الدفاع ايهود باراك أمام لجنة الخارجية والأمن بالكنيست أنه أعطى تعليماته بالفعل للجيش الإسرائيلي للتأهب لحملة عسكرية كبرى. وسبق ذلك صدور موافقة من الحكومة الإسرائيلية على تصعيد عمليات الاغتيال في قطاع غزة لتشمل شخصيات مركزية من حماس، واكبها تصريح من النائب الأول لرئيس الوزراء الإسرائيلي حاييم رامون بأن سقوط نظام حماس آت في غضون أشهر أو سنة على الأكثر. وقد أخذت حماس تلك التصريحات والتقارير على محمل الجد. لكنها في الوقت نفسه لم تجد لنفسها مخرجاً من المأزق الذي تعيشه. ففتح هجرتها بلا عودة، والقاهرة لا تستطيع مساعدتها بلا حدود. كما أن قربها من سوريا وإيران لن يعجل إلا بمواجهة أوسع بينها وبين إسرائيل قد تكون الحملة البرية الإسرائيلية المخطط لها هي عنوانها. وإذا كانت تلك الحملة العسكرية الإسرائيلية المرغوبة تواجه عدة معوقات دبلوماسية وفنية قد تعطلها أو حتى تلغيها، إلا أن ذلك لا ينفي أن أشكالاً مختلفة من المواجهات الدموية يمكن أن تنفجر داخل القطاع في أية لحظة. فمنطق الصراع العربي - الإسرائيلي، وبشكل خاص في حالة المواجهة بين إسرائيل وحركات مقاومة وليس دولاً عربية، منطق شديد الجنون، هذا إن صح وصف المنطق بالجنون. فكثيراً ما كانت المعوقات ظاهرة وأسباب تجنب الصدام جلية، ومع هذا انزلق الموقف إلى مواجهات درامية خطيرة. ولم تكن حرب صيف 2006 في لبنان إلا دليلاً على ذلك. فقد كانت كلها حرب ضد المنطق من حزب الله وإسرائيل على السواء، لكنها مع ذلك وقعت. ولو أن الإسرائيليين دخلوا غزة في حملة ضخمة، فإن دخولهم إليها لن يكون من أجل إعادة احتلالها. فقد انسحبوا منها في 2005 بعد أن تعرفوا على صعوبات البقاء هناك لأكثر من ثلاثة عقود. لذلك فإن دخولهم سيكون بهدف تصفية حماس وليس البقاء هناك لردعها، وهو ما يفتح الباب أمام حريق فادح. فإذا كان الإسرائيليون جادين في التضحية بأكثر من مائة جندي، كما قال وزير دفاعهم باراك، فمعنى هذا أن الضحايا على الجانب الفلسطيني سيكونون بعشرات الأضعاف. وستكون خسائر فلسطينية بهذا الحجم مدعاة لغضب شعبي عربي عارم يسبب مزيداً من الإحراج لكثير من الحكومات العربية المحرجة أصلاً. ثم إن حماس لن تموت هكذا نهائياً كما تأمل إسرائيل. وهذا ليس تفكيرا بالأماني أو حباً في حماس، وإنما استخلاص يستند إلى تاريخ حركات المقاومة وبالذات في حالة الصراعات التاريخية التي تكتسي طابعاً دينياً مقدساً. فتلك الحركات لم تخمد إلا لتشتعل من جديد مادامت القضية التاريخية التي تكافح من أجلها بقيت عالقة. لهذا فإن تصفية حماس (1) إن تم فلن يعقبه إلا ظهور حماس (2). ويزيد من خطورة القادم من غزة أن التطورات في القطاع لم تعد بعيدة عما حدث في الآونة الأخيرة على الساحة اللبنانية، وبالتحديد بعد اغتيال عماد مغنية العقل الاستراتيجي والقيادة العسكرية التاريخية لحزب الله. فبعد أن أعلن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن مقتل مغنية في دمشق دشن مرحلة الحرب المفتوحة ضد إسرائيل، فإن انتقام الحزب يمكن أن يقع في أي مكان بما في ذلك قطاع غزة. بل إن القطاع يبدو مكاناً محتملاً للمواجهة لسببين. أولهما أن فيه حركة مقاومة يعتبر حزب الله دعمه لها مسألة مبدأ في حين تعتبر إسرائيل القضاء عليها مسألة ضرورة. والصراع بين المبدأ والضرورة ليس أمامه ساحة أوضح ولا أفضل من غزة. فإسرائيل كي تطمئن عليها ضبط ما يحدث في القطاع، وحزب الله كي ينتقم عليه ألا يدع إسرائيل تطمئن أبداً. والسبب الثاني أن حزب الله لو بحث عن مكان يستطيع من خلاله الانتقام السريع والمؤلم من إسرائيل فلن يجد أفضل من قطاع غزة. ففيه كثير من الأنصار المستعدين للتعاون مع الحزب. وإذا كان مغنية نفسه كما نسب إلى تقارير إيرانية قد توجه إلى دمشق كي يلتقي خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس، فإن ذلك لا بد وأن يكون له معنى. وبعد مقتل مغنية، فإن التنسيق بين الحركتين صار له معنىً أكبر ومبرر أعظم. والحرب المفتوحة التي أعلن عنها السيد نصر الله ما هي إلا بديل عن الحرب المغلقة التي سبق للحزب أن خاضها ضد إسرائيل في صيف 2006 وكانت الأراضي اللبنانية مسرحها. وحتى لا تكون الساحة اللبنانية من جديد مسرحاً للمواجهة القادمة، خرج الحزب بفكرة الحرب المفتوحة. وهي فكرة ذكية لأنها تضيع على حكومة أولمرت ذريعة كانت تتمناها لشن حرب جديدة على الحزب اللبناني تستعيد بها هيبة الردع الإسرائيلي. ولأن حزب الله يعي حساباته بشكل أفضل ويعلم أن حرباً جديدة ضد إسرائيل على الأراضي اللبنانية سوف تضعف كثيراً من قوته، فقد جاء بفكرة الحرب المفتوحة. فهي طرحٌ يحمل في ظاهره معاني البطولة والرجولة ويلتزم في جوهره بموقف براغماتي. فالحرب المفتوحة تنقل المواجهة بعيداً عن لبنان بما يضيع على خصوم الحزب من اللبنانيين فرصةً يتمنونها لإضعافه. وهنا تبرز قيمة غزة. فهي واحدة من الساحات التي يستطيع حزب الله أن يلجأ إليها للانتقام من إسرائيل خاصةً لو قررت الأخيرة شن حملتها البرية الكبرى على القطاع. الصورة إذن تتلخص بإيجاز في أن هناك مقدمات للتسخين بعضها في غزة وبعضها الآخر في لبنان. وأخطر ما في الأمر ما بين الاثنين من تداخل. فإسرائيل تتعامل مع حزب الله وحماس على أنهما حركتان مرتبطتان بروابط جهادية واحدة وتصنفهما كبؤرتين للقلق عليها اقتلاعهما. وقد حاولت قبل نحو عامين في لبنان ولم تتمكن. وليس مشروعها الحالي لاقتلاع حماس من غزة إلا محاولة جديدة ولكن في اتجاه آخر. لهذا، فإن حزب الله وهو يوسع الدائرة ليبعدها عن لبنان قد يجد نفسه ذاهباً في نفس الاتجاه الذي تذهب إليه إسرائيل، أي إلى غزة. وهذا لا يعني بالطبع أن القطاع سيكون المسرح الوحيد للتسخين القادم، لكنه سيكون واحداً من الساحات الرئيسية. عن صحيفة الوطن القطرية 19/2/2008