العرب و"إسرائيل" في استراتيجية أمريكا بعد بوش عاطف الغمري كيف تنظر وثيقة الاستراتيجية الأمريكيةالجديدة لما بعد بوش، إلى الأوضاع في الشرق الأوسط؟ كان من المهم التركيز في هذا المقال على هذا الموضوع، بعد أن عرضنا في مقال الأسبوع الماضي، للخطوط الرئيسية لهذه الوثيقة المكونة من مائة صفحة، والتي استغرقت المناقشات التي سبقت صياغتها ثلاث سنوات، شارك فيها 400 من كبار خبراء السياسة الخارجية الأمريكية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومن المستقلين الليبراليين، منهم هنري كيسنجر، وجورج شولتز، ومادلين أولبرايت، وبريجنسكي، وفوكوياما، وأنتوني ليك وغيرهم. وفي هذا الجانب تضمنت الوثيقة النقاط التالية: (1) التهديدات الصادرة من الشرق الأوسط عديدة ولا تحصى، وأكبرها الانهيار التام للنظام الاقليمي. فقبل الحرب بين “إسرائيل" وحزب الله في لبنان في صيف ،2006 كان انفجار الموقف قد تحدد بهذا الترتيب: (ا) اشتعال حرب أهلية شاملة في العراق تجر اليها الدول المجاورة، وتتسبب في مواجهة بين السنة والشيعة في المنطقة. (ب) قومية متشددة متعصبة في إيران، تقود إلى منافسة أمنية مكثفة مع الدول العربية أو مع “إسرائيل". (ج) تصرفات من جانب حماس تؤدي إلى حرب شاملة بين “إسرائيل" والسلطة الفلسطينية. .. والآن فإن هذا السيناريو يجب أن يتضمن احتمالات تجدد حرب بالوكالة بين “إسرائيل" وإيران في جنوب لبنان. واحتمال أن يؤدي ذلك إلى انفجار واسع النطاق بين “إسرائيل" من جانب وبين إيران وسوريا من جانب آخر، وأن تنحشر لبنان فيما بينهما. (2) ان الامتزاج القائم في المنطقة بين البترول، والأصول العرقية، والتراكمات التاريخية، والمنظمات الخارجة على دولها، والأسلحة النووية، ومصالح القوى الكبرى، كل هذا يجعل الشرق الأوسط الآن منطقة متفجرة، ما يضعها في وضع منافسة مع منطقة البلقان في آخر القرن العشرين. ولذلك ينبغي إعطاء النزاع في الشرق الأوسط، في ترتيب الأولوية، حتى لا يتحول إلى نزاع عالمي. وأن يكون الهدف الاستراتيجي طويل الأجل للولايات المتحدة في المنطقة، إقامة الحرية في ظل حكم القانون، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى إيجاد منطقة تنعم بالسلام والحرية والاستقرار، بما يتيح للعرب ول"إسرائيل" الازدهار. (3) أن تحقيق هذا الهدف يتطلب حلاً يسمح بوجود دولتين جارتين “إسرائيل" وفلسطين. وهذا هو الأساس لتسوية سلمية شاملة في الشرق الأوسط، تساعد على قيام علاقات طبيعية مع “إسرائيل"، ومشاركة أمنية، وبناء اقليمي مؤسسي. ويجب أن يشتمل أي حل طويل المدى على اتفاق متبادل بشأن الحدود، وحل المشكلات الشائكة مثل وضع القدس، وحق العودة للاجئين. وأن يسمح هذا الحل بإبرام اتفاقيات سلام واسعة بين “إسرائيل" والدول العربية الأخرى، وإيجاد أسس قيام نظام اقليمي دائم ومستقر، يدفع حكومات المنطقة إلى التركيز على رفاهية شعوبها. (4) يجب على الولاياتالمتحدة أخذ زمام المبادرة لتحقيق تسوية سلمية، وحسب تعبير كلينتون علينا أن نحاول، وفي اللحظة الراهنة فإننا فقدنا دورنا التقليدي كوسيط نزيه بين “إسرائيل" والفلسطينيين. وقد حدث في المفاوضات التي أدت إلى صدور قرار مجلس الأمن رقم 1701 في أغسطس/ آب ،2006 بشأن الحرب في لبنان، أن الكثيرين في العالم اعتبروا الولاياتالمتحدة تمثل “إسرائيل". وهذا لا يعني أن على الولاياتالمتحدة ان تفرض حلاً على “إسرائيل"، لكنه يعني أن نعمل بشكل مكثف ومستمر، لجلب الأطراف إلى مائدة المفاوضات وأن نحملهم على الاتفاق فيما بينهم. (5) ينبغي على الولاياتالمتحدة ان تشرك السعودية في عملية البناء على مبادرة السلام العربية التي كان الملك عبد الله قد أعلنها في عام ،2002 والتي تنص على حل النزاع العربي “الإسرائيلي"، وتتضمن إقامة علاقات طبيعية مع “إسرائيل"، في مقابل انسحاب “إسرائيل" من الأراضي المحتلة في ،67 واعتراف “إسرائيل" بدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدسالشرقية، وحلاً عادلاً للاجئين الفلسطينيين. (6) بالنسبة لإيران، فإن الولاياتالمتحدة يمكن ان تكون مستعدة لتقدم لإيران عرضاً بضمانات تهدئ مخاوفها، وتشمل ضمانات أمنية ايجابية في صورة وعد، بعدم مهاجمة إيران، فيما عدا الرد على أي عمل عسكري إيراني، أو تأييد إيراني مباشر لأي هجوم إرهابي ضد الولاياتالمتحدة، وأوروبا، و"إسرائيل". وأن يعتمد هذا العرض على تعهد إيراني بعدم متابعة جهود وامتلاك سلاح نووي، وقبول إيران تفتيش وكالة الطاقة الذرية على منشآتها النووية. (7) حتى الآن يعتبر الشرق الأوسط أقل المناطق في العالم تمتعاً بالمؤسسات الديمقراطية، ولهذا يجب على الولاياتالمتحدة أن تشجع عملية متدرجة لبناء المؤسسات في المنطقة من خلال تعاون على أساس المفاوضات متعددة الأطراف، التي كانت قد بدأت عقب مؤتمر مدريد ،1991 وما تبعها من المؤتمرات الاقتصادية في الدارالبيضاء، وعمان، والقاهرة، والدوحة، والتي سعت لبناء علاقات اقتصادية وتجارية مع القطاعين العام والخاص في المنطقة. على ان تكون هذه العلاقات سابقة لإقامة أي علاقات رسمية مؤسسية. ومن بين هذه المقترحات إقامة مؤتمر للأمن والتعاون في الشرق الأوسط مشابه لمؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، بحيث تلتزم الدول التي تتمتع بعضوية هذا المؤتمر بمعاملة شعوبها وفقاً للمعايير المتبعة لحقوق الإنسان. وهذا المؤتمر يمكن أن يساعد على إدخال مقاييس للمحاسبة في السياسات الداخلية لدول الشرق الأوسط. هذه هي بعض الخطوط الأساسية في ما يختص بالشرق الأوسط، في وثيقة استراتيجية ما بعد بوش، لكن نلاحظ أن هناك جانباً إيجابياً يمثل تطوراً في السياسة الأمريكية، وجانباً آخر لنا عليه تحفظات. * أولاً: في ما يتعلق بالجانب الأول، فإننا لا يمكن أن ننكر إيجابية القول بضرورة قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدسالشرقية، وباتفاق متبادل حول مشاكل الوضع النهائي كالحدود، وحق العودة للاجئين، ووضع القدس، وليس بانفراد “إسرائيل" بفرض موقفها للحل من جانب واحد. واعتبار أن ذلك يسمح باتفاقات سلام شامل مع الدول العربية الأخرى. كما تعترف الوثيقة بأن الولاياتالمتحدة لم تعد تمارس دور الوسيط النزيه، في إشارة إلى انحيازها ل"إسرائيل"، كما أن الوثيقة تعيد تعديل الوضع المقلوب من جانب حكومة بوش، حين تقرر ان التطبيع يأتي لاحقاً على الانسحاب من الأراضي المحتلة في ،67 وقيام دولة فلسطينية. * ثانيا: رغم اعتراف الوثيقة بانهيار النظام الإقليمي في المنطقة، فإنها تجاهلت مسؤولية السياسة الأمريكية عن هذا الانهيار، منذ مارست في العراق سياسة هدم النظام وليس تغييره بتفكيك المؤسسات، وتسريح الجيش وقوى الأمن الداخلي، وفتح الباب أمام فرق المخابرات “الإسرائيلية"، متسترة وراء لافتات شركات الأمن، والمقاولات، التي لعبت دوراً في تنشيط عملية الانهيار. كما أدت هذه السياسة الأمريكية إلى إيجاد مناخ الفوضى، الذي تضاعف فيه حجم الإرهاب والعمليات الإرهابية، بالإضافة إلى وجودها كدولة محتلة بكل معنى الكلمة، مما كان لا بد أن يوجد مقاومة وطنية في مواجهة الاحتلال. * ثالثاً: إن إدارة الأزمات من جانب القوة الأمريكية، من منطلق مصالح أمنها القومي، وفي تهميش لحسابات مصالح الأمن القومي للعرب، قد فتح الباب أمام ممارسات أخرى لصالح الأمن القومي إن لدول إقليمية، مثل إيران، وحتى لو كانت أمريكا تشكو منها، فهي المتسببة في إيجادها، مع عدم إغفال أن الوثيقة مازالت تتوقع انفجاراً واسع النطاق في لبنان بين إيران من جهة، و"إسرائيل" من جهة أخرى. * رابعاً: تقر الوثيقة بأن الشرق الأوسط منطقة متفجرة لا تنعم باستقرار إقليمي من دون أن تشير إلى ما حدث من تعديل في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، باستبعاد الاستقرار الإقليمي من أولوياتها، باتباعها ما سمي عسكرة السياسة الخارجية. ووضع الحرب قبل الدبلوماسية، مما تبعه زعزعة الاستقرار الإقليمي، وهو الذي كان في عهد بوش الأب وكلينتون، يمثل مصلحة أمن قومي للولايات المتحدة في المنطقة. * خامساً: إن الوثيقة وهي تناقش التحديات لأمريكا في العالم الإسلامي، تقع في مشكلة تؤثر في مناقشات معظم الأمريكيين للشرق الأوسط. وهي عدم استيعاب نظرتهم للمصادر الحقيقية للمشكلة بجميع أبعادها. وأولها مشاعر الغضب لدى 2.1 مليار مسلم في العالم الاسلامي، تجاه مسائل تمس ديانتهم، نتيجة تصرفات “إسرائيل" تجاه القدس، والمقدسات الإسلامية في فلسطين، والمحنة الإنسانية للفلسطينيين. بالإضافة إلى انفراد الولاياتالمتحدة بتعريف للإرهاب من زاوية نظرتها وحدها، ثم وضع استراتيجية للحرب على الإرهاب بناء على هذا التعريف القاصر عن الإلمام بجميع أبعاد هذه الظاهرة العالمية، ورفضها أن تشرك معها أطرافاً دولية أخرى، كانت تستطيع أن تقدم خبراتها التي يمكن أن تحاصر الظاهرة وتقضي عليها. والوثيقة برغم أي شيء، وفي تناولها الموسع لقضايا عالمية متعددة، فهي تمثل توجها، يختار لنفسه مسارات، تبدأ برفض استراتيجية عهد بوش، وتطرح أمام عيوننا أبعاداً لسياسة خارجية جديدة، يتوقف اعتمادها على من هو الرئيس القادم للولايات المتحدة، واستعداده للأخذ بها، أو بالبعض منها. عن صحيفة الخليج الاماراتية 23/1/2008