د. اشرف السيوطى تكسرت الرماح والسيوف... فلتبدأ حرب ألكلمه ...مقوله أعلنها (لويس التاسع) بعد إطلاق سراحه يفيد به ماديه من دار بين لقمان ...وكأنها كانت نبوءة ...فما كاد الوطن ينتهي من الغزو والعسكر حتى بدأت حرب جديدة...حر الكلمة.
والآن الرصاصة- كما قال بعض علمائنا – قد تقتل رجلا واحدا...أما الكلمة فقد تقتل جيلا بكامله ...من هنا وجوب التصدي لحرب الكلام الضال والمضل ...لأن ذلك أمن دوله.
أمن الدولة ...لا نعني به الجهاز الأمني المعروف ... وإنما نقصد به الأمن الفكري ... فهو الأمن الذي يسبق كل جوانب الأمن الأخر ...لآن مرتبط بهويه الأمة واستقرارها.
أمن الدولة الفكري مقدم علي الأمن العسكري ...فإذا كان الاحتلال العسكري يجبر الأمة المغلوبة علي الخضوع له ... فأن الغزو الفكري يسير الأمة المغلوبة إلي غازيها طواعية.
إن من يتعرف علي أحوال الأمم السابقة والمجتمعات الحاضرة ...فلن يتطرق إليه شك ...أن الآمن الفكري مبتغي ينشده كل مجتمع ولا يخص المسلمين فقط فليس الأمن الفكري بمستحدث ... وإنما هو موجود علي مر العصور حتى وأن كان هذا الفكر ايجابيا .
ففي قصه (موسي) عليه السلام مع فرعون يتضح تخوف فرعون من دعوه موسي الإيجابية ...لأنه يعلم بخطورة دعوته علي ملكه "وقال فرعون ذروني أقتل موسي وليدع ربه أني أخاف أن يبدل دينكم وأن يظهر في الأرض الفساد" (غافر 26)
وقد واجه الرسول (ص)نفس الموقف مع مشركي قريش ...من الحصار في شعب أبي طالب ...ومنعه من مقابلة الحجيج والمعتمرين ...كل ذلك لمنعه من التأثير الفكري في الناس .
فإذا كان هذا هو الحال من قبل الظالمين مع الفكر الإيجابي ...فما عسانا أن نفعل مع الفكر الفاسد المنحرف المتطرف؟
لقد جاء الإسلام ليحفظ علي الناس أمنهم الفكري من أي اعتداء علي عقائدهم أومحاوله تغيرها بالفكر المنحرف ... صان الإسلام هذا الفكر سوءا علي نطاق المجتمع المسلم وعلاقة بعضه ببعض فمصدر التلقي واحد هو القرآن الكريم وسنه نبيه (ص)...
ونهي عن الابتداع في الدين "إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعه ضلاله"(مسلم) ومن تحريم الفتوى بغير علم ...مما يوقع بالمجتمع في فوضي فكريه..كما هو الحال في سيل الفتاوى علي الفضائيات...وتنافس المشايخ عليها ...فأصبحت الفتاوى بطول اللحية ...فإن تساوت في الطول فبأكثرها كثافة.
فليس كل من قرأ كتاب فقه...او اعتلي منبرا مؤهلا للإفتاء ...فقد جعل الإسلام الفتيا بغير علم من أشد الجرائم الدينية .قال تعالي :"ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا علي الله الكذب إن الذين يفترون علي الله الكذب لا يفلحون"(النحل 116)
أما في علاقة المسلم مع المسلم الآخر غير المسلم ...فقد دعا الإسلام إلي الالتقاء مع أهل الكتاب في قاسم مشترك يجمع بينهم يتمثل في توحيد الله ...وتبادل الأفكار والعلوم النافعة ... وأباح للمسلم الزواج بالكتابية...وأكل ذبائح أهل الكتاب ...وغيرها من المعاملات المباحة .
.تطبيقا لأصول العلاقة مع الآخر في ضوء قوله تعالي "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين"(الممتحنة 8)
ولن يكون الأمن الفكري صحيحا إلا سلامه القلب الذي هو مستودع الفكر والمشاعر ...ولن يكون القول سليما ولا العمل صحيحا مقبول إلا إذا كان القلب سليما من الآفات ... قال تعالي "يوم لا ينفع مال او بنون الإ من أتي الله بقلب سليم" (الشعراء 88)
وقال (ص)" ألا إن في الجسد مضغه إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " ةفالأمن الفكري إذن هو اطمئنان النفس علي الثقافة والمعتقدات المستمدة من الكتاب والسنة من أن يصيبها التشويش أو التشويه.
فالغزو الفكري أيا كان مصدره خارجيا أم داخليا من الممكن أن يهدم الشخصية فهو يغير المفاهيم والأفكار بطرق خفيه لا شعورية ...وما التفجيرات والأفكار التفكيرية إلا نتاج لغزو فكري. والمتأمل في مرجعيه المجتمع الفكرية وخاصة الشباب يجدها مستمده من عده مصادر.
أخطرها أولئك الأصوليين الذين يتبعون منهج التفكير...يخرجون من العقيدة السمحة من لا يتفق مع أفكارهم ...يوزعون صكوك الغفران علي أتباعهم وكأنهم يمسكون بمفاتيح الجنة والنار .
أدي هذا الفكر المتطرف إلي استباح دماء الأبرياء مسلمين وغير مسلمين وما أحداث تفجيرات مسجد الحسين وأحداث أعياد الميلاد إلا ثمرة هذا الفكر المتطرف ...
قائدهم إلي ذلك جهل بالنصوص الشرعية في كتاب الله وسنه نبيه(ص) تلك النصوص التي تحذر وتنهي عن سفك الدماء بغير حق .. قال تعالي "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما(النساء 93)
وتأتي بعد ذلك بعض الفضائيات الهابطة...التي أفسحت المجال لهؤلاء الأصوليين لنشر فكرهم الأصولي المتطرف بين الشباب ... بما يطلقونه من فتاوي لا تتفق مع روح الإسلام م...وواقع العصر... بالتركيز علي أفضل ما في الماضي وأسوأ ما في الحاضر ..
.متجاهلين عن عمد مافي الماضي بعد عصر الراشدين _ من مساوئ كما في حكم بني أمية ...وأخطاء بني العباس وأخيرا الشبكة العنكبوتيه المعروفة بالانترنت فمن السهل لأي صاحب فكر متطرف أن يروج ما يريد من أفكار ...مما أدي إلي تشوش أفكار الشباب.
فهل هذه المصادر تصلح لتوجيه شبابنا الوجهة الصحيحة ؟
الإجابة..لا.. فعلي كل صاحب قلم مؤثر ...وعلي كل عالم مستنير...وكل داعية يمتلك ناصية البيان ...أن يقوم بواجبه لصد هذا الفكر المتطرف إنها مسئوليه جماعية ...تبدأ أولي خطواتها من المؤسسات التعليمية ...فلا يقتصر دورها علي إعطاء مفتاح العلوم فقط ..
وإنما تعليمهم لمفهوم الأمن الفكري عن طريق ربطه بالوطن الذي يعيش فيه... فالرسول (ص) عندما أخرج من مكة مهاجرا إلي المدينة قال:"والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت "( الترمذي).
وتوجيه الشباب نحو العلم النافع بكل أشكاله الشرعية والكونية ...فهو أساس رسوخ الأمن الفكري .قال (ابن القيم)"وإذا ظهر العلم في بلد أو محله قل الشر في أهلها ,وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد".
وتأتي الخطوة الثالثة بنشر روح الوسطية بين الشباب ...لقوله تعالي "وكذلك جعلناكم أمه وسطا لتكونوا شهداء علي الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"(البقرة 143)
وسطيه لا غلو فيها ولا تشدد...وإنما تسامح ومحبه...فالدين المعاملة وليس الدين بالتزمت والتشدد الذي نهي عنه النبي(ص) بقوله :"إياكم والغلو ,فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"(النسائي)
وتأتي الخطوة التالية ...الوقاية خير من العلاج ..عن طريق الإسراع بتعريف الشباب بكل الأفكار المتطرفة قبل وصولها إليهم ...فالأفكار المتطرفة لها أجنحه تنتشر انتشار النار في الهشيم ...وبهذا الطريقة يحص الشباب ضدها .قال تعالي " وكذلك نفصل الآيات وليس ولتتبين سبيل المجرمين"(الأنعام 55)
كما يجب محاصرة تلك الأفكار المتطرفة قبل انتشارها ...وهو ما فعله النبي (ص) مع الثلاثة الذين سألوا عن عبادته فتقلوها. فعزم احدهم علي صيام الدهر ...والثاني علي قيام الليل ...أما الثالث فقرر اعتزال النساء ...فما كان منه (ص) إلي أن أسرع فحاصر أفكارهم المتطرفة ...وإصدار حكمه الرادع فهو يصوم ويفطر ...ويقوم ويرقد... ويتزوج النساء ... وأن من رغب عن سنته تلك فليس منه.
فلو وجد أصحاب الفكر المتطرف من يحاورهم حوارا مباشرا ... لما أقدموا علي ما فعلوه من مخالفات .
ولكن للأسف ...فإن كثيرا من الدعاة شغلوا أنفسهم بالدعوة إلي الله ونسوا في خضم ذلك خطر هذا الفكر المتطرف ...حتي وإن انتبهوا إليه نجدهم يقدمون حلولا تقليديه ... كالوعظ والتخويف ... والتهديد والوعيد... فكيف يعظون ويتوعدون أشخاصا يظنون أنهم علي حق , وأن ما يصيبهم من اذي في سبيل فكرهم لهو قربه يتقربون به إلي الله .
ويخطئ من يعتقد أن اعتزال أصحاب الفكر المتطرف هو الحل ...متخذين من قوله تعالي " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره"(الأنعام 68) دليلا علي صواب رأيهم .
وفي الحقيقة إنه هو قاصر ...فالفكر لا يفله ولا يصده إلا بفكر مثله ...سواء بالحجة والدليل أم بفكر وسطي قويم حتى يعودوا إلي الدين السمح ... دين المعاملة الحسنه .
فأين هم من قوله تعالي " ولتكن منكم امه يدعون إلي الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" (آل عمران104)
وما هذا الفكر المتطرف وأصحابه إلا منكر يجب تغيره بلسان وبالقلب وباليد.
وبهذه الوسائل وغيرها نستطيع تحقيق أمن الوطن الفكري ... فيتبعه الأمن الشامل بكل أنواعه ... ليتحقق في مصر قوله تعالي " ادخلوا مصر ان شاء الله أمنين "( يوسف99)
إننا نقبل كل فكر إيجابي مهما كان مصدره ليبراليا أو تقدميا أو اصلاحيآ... طالما له قواعده وضوابطه في شريعتنا الإسلامية السمحة الملائمة والصالحة المصلحة لكل العصور .
أما أذا كان هذا الفكر... ليبراليا كان أم أصوليا ... بدون قواعد مستمده من الإسلام ..فإننا لا نقبله .
فالليبرالية بدون الإسلام نوع من التحرر يلغي هويتنا وشخصيتنا ... وكذلك الفكر الأصولي المتطرف ... يعطل العقل الذي أعلي الإسلام من شأنه ويجعلنا مجرد مسخ يقلد وينفذ افكارآ ما أنزل الله بها من سلطان.
إننا نبرأ من كل فكر ليبرالي بدون قواعد مستمده من الإسلام ... حتى لا نخترق فكريا. ونبرأ من كل فكر أصولي جامد متسلط لا يجيد حتى حوار الذات ... فكلاهما سبب من أسباب انهيارنا ... انهيار أمن الدولة .
الدولة التي منحها الله فيضا من الرغبة في التدين منذ تاريخها البعيد ... تلمسته في بناء الأهرامات ... وفي محكمه أوزيريس ... وفي توحيد أخناتون ... وفي رعاية يوسف ... واستضافه موسي ... وإيواء عيسي وأمه ... عليهم السلام .
ولما أشرق عليها فجر الرسالة المحمدية ... رأت فيه الصورة التي تعشقها وتأملها ... فعاشت بتلك الرسالة وعملت من أجلها ... يحوطها سياج قوي من الأمن الفكري ...الذي هو أساس أمن الدولة .