أهالي غزه .. يعيشون الآن دون كهرباء .. وبقليل من المياة الصالحة للشرب .. وهاهم مهددون الآن بتعليق المعونات الغذائية التي اعتادت الهيئة الأممية تقديمها لنحو 750 ألفاً من اللاجئين .. فهل يفهم العرب معنى هذا (التعليق)؟ .. وهل يدركون حجم النتائج الكارثية التي ستقع على هؤلاء اللاجئين، إذا ما استمر هذا التعليق لمدة شهر مثلاً؟ .. أم أن القضية الفلسطينية لم تعد مدرجة في قائمة اهتماماتهم؟. منذ أُعلن عن تأجيل الحوار الفلسطيني، شرعت إسرائيل في تصعيد اختراقاتها لاتفاق التهدئة، حيث قامت بعدد من التوغلات أسفرت عن استشهاد العديد من عناصر المقاومة الفلسطينية والمدنيين، ما دفع بفصائل المقاومة وبخاصة حركة حماس إلى قصف المستوطنات اليهودية الحدودية والمدن القريبة من القطاع، بنحو مائة صاروخ خلال العشرة أيام الماضية، منها عدد من صواريخ جراد سوفييتية الصنع أطلقت على مدينتي "المجدل" و "عسقلان" التي تبعد عن القطاع نحو 18 كيلومتراً، أما بقية الصواريخ فكانت من صنع محلي .. أطلق عدد كبير منها على بلدة سيديروت والباقي استهدف مستوطنات حدودية أخرى. وبرغم ادعاءات المسئولين الإسرائيليين، بأن هذه التوغلات جرت لتدمير أنفاق كانت عناصر المقاومة تقوم بحفرها (بهدف القيام بعمليات اختطاف لجنود إسرائيليين)، كما استهدفت ضرب منصات إطلاق الصواريخ الفلسطينية، غير أن العديد من المراقبين يجمعون على أن الهدف الحقيقي منها، كان وقف الحوار الذي كانت إسرائيل تأمل من ورائه دعم موقف عباس الذي يعتبر- في نظرها- أنموذجاً للمفاوض الفلسطيني الطيِّع، الذي تتطابق مواقفه وتوجهاته السياسية مع الأجندة الصهيوأمريكية الخاصة بحل القضية الفلسطينية بصورة نهائية. إضافة إلى تضييق الخناق على حركة حماس وعلى أهالي القطاع الذين ما برحوا يظهرون تأييدهم لها ودعم موقفها المناهض لأسلوب التفاوض الذي تنتهجه سلطة عباس في رام الله مع الإسرائيليين. ففي الأمس القريب، أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين UNRWA التابعة لهيئة الأممالمتحدة، عن تعليق برنامج المساعدات الغذائية الذي درجت على تقديمها لهم، منذ أجبرهم الإرهاب الصهيوني على النزوح عن قراهم ومدنهم عام 48، بسبب إغلاق إسرائيل للمعابر التي تستخدمها شاحنات الوكالة في نقل تلك المعونات للقطاع. وقد تزامن هذا الإعلان مع نفاذ إمدادات الوقود اللازم لتشغيل محطة الكهرباء الرئيسية في القطاع، نتيجة وقف إسرائيل لها، ما اضطر المسئولين في غزه إلى جدولة توزيع الكهرباء (التي تصل إليها عن طريق خط كهربائي من إسرائيل) على المناطق في القطاع، بواقع ثمان ساعات لكل منها. وهنا لا بد للعرب الذين يصفون أنفسهم تارة بالنشامى، وتارة أخرى بصانعي الحضارات، أن يتخيلوا النتائج الكارثية التي سيقع فيها أهالي غزه المحاصرين أصلاً منذ أكثر من سنة وأربعة شهور، وليتفكروا في حجم الأخطار التي ستواجه هؤلاء المحاصرين إذا ما قطعت عنهم المعونات الغذائية إضافة للكهرباء والدواء .. وكذلك المياه الصالحة للشرب التي تتحكم إسرائيل في تزويد القطاع بكمية من المياه لا يستهان بها. في سنوات الهجرة التي قضاها الإنسان الفلسطيني سواء في القطاع أو الضفة، والتي امتدت لأكثر من ستين عاماً، كان المصدر الوحيد الذي يعتمدون عليه، هو المعونة الغذائية التي كانت وكالة الغوث الدولية تمدهم بها، بعد أن استنفذت المدخرات القليلة التي استطاعوا الخروج بها من قراهم ومدنهم دون أن يفطن اليهود لها. وهذا يعني (بكل بساطة) أن الجوع الذي يتبعه المرض، وينتهي بالموت المحقق، هو النتيجة الحتمية لقطع أو تعليق أو منع (سيان) تلك المعونات من الوصول بانتظام، لإطعام اللاجئين في القطاع والذين يبلغ عددهم نحو 750 ألفا. وليس في هذا القول أدنى مغالاة أو تهويل .. فالبطالة منتشرة بين سكان القطاع، والمعابر التي يمكن أن تفك ضائقتهم (ولو قليلاً) أصبحت محكمة الإغلاق. وحتى المساعدات المالية التي كانت تصل لبعض العائلات من الأقارب الذين يعملون في الدول العربية، باتت تلقى صعوبات جمة حتى تصل إليهم بسبب إجراءات بالغة التعقيد .. هدفها الوحيد تشديد الحصار المفروض على أهالي القطاع. وفي مقابل هذا الواقع المرير، نجد أهل الثراء في العالم العربي يتقبلون خسارة (مائة مليار) دولاراً في أسبوع واحد نتيجة ثقتهم بأعداء هذه الأمة، بينما لم يحدث أن قاموا بمبادرة جادة من أجل رفع المعاناة عن أولئك الذين يرفضون الخضوع للعدو الإسرائيلي ويتبنون المقاومة المسلحة سبيلاً لدحر العدوان عنهم. بل نرى الجامعة العربية توجه لهم التهديد والوعيد إذا ما حاولوا إعاقة الحوار الذي يريد عباس وقادة أوسلو من ورائه، إجبار حركات المقاومة التي تتصدى للعدو الإسرائيلي، على اتباع النهج الاستسلامي الذي تسير عليه السلطة ومن والاها. وهكذا نرى أن ما يتمناه الأوسلوويين ومؤيديهم، أن يقوم أهل القطاع بانقلاب على حماس وفصائل المقاومة الأخرى، التي ينظرون إليها على أنها أخطر من الوجود الإسرائيلي في المنطقة، الذي قسم الوطن العربي الكبير لشطرين. وهذا مطلب إسرائيلي وأمريكي وأوروبي، قبل أن يكون مطلباً لعباس وقادة فتح أوسلو، وغالبية الدول العربية. أما لماذا؟ .. فهذا أمر يطول شرحه. ما يريد الإنسان الفلسطيني والعربي أن يوجهه الآن، لكل من يتجاهل معاناة أهالي القطاع بسبب الحصار المفروض عليه .. ولكل من يقلل من شأن التهديدات بقطع المعونات الغذائية والدوائية والكهرباء عنهم، ولكل من يحاول التقليل من شأن المقاومة التي يبديها الشعب الفلسطيني في التصدي للغزوة الصهيونية لأرض فلسطين .. ولكل من يطالبه بالتنازل عن ثوابته التي تطالب بإعادة الحقوق المشروعة والأرض المسروقة .. أن يكونوا على يقين من أن الفلسطينيين لن يركعوا أبداً للواقع الذي فرضه الغرب بعامة وأمريكا بخاصة عليه، سواء في قطاع غزه أو في الضفة أو في أرض الشتات. فإذا كانت الظروف العربية والدولية لا تسمح في هذه المرحلة باستعادة كامل التراب الفلسطيني من الصهاينة .. فهذا لا يعني التخلي عن هذا الهدف، مهما كان الثمن، ومهما امتد الزمن. فليس من المنطق في شيء أن يسلم الإنسان بسرقة أرضه، ويعترف للسارق بشرعية ما سرق. فإذا كان رئيس السلطة محمود عباس وبمباركة من رئيسه الراحل عرفات رحمة الله عليه، قد قبلا بهذا الواقع المشين حين وقعا على اتفاق أوسلو الذي لم يخلف سوى العار والخراب والدمار، واعترفا بالكيان العبري، فليس هناك ما يجبر الشعب الفلسطيني على القبول بما وقعا عليه. فلا بد أن يأتي اليوم الذي تستطيع فيه هذه الأمة من استعادة أرضها المقدسة التي دنسها الصهاينة. "فدوام الحال من المحال" على ما يقول المثل الشعبي. فكم من حضارات (وليس دول أو حكومات) سادت ثم بادت، وإسرائيل (بل وحليفتها أمريكا) ليستا استثناءً من هذه القاعدة. أما محمود عباس وأعوانه، ومعهم الجنرال الأمريكي دايتون، فليتذكروا جيداً أن "ما من حق ضاع ووراءه مطالب". والفلسطينيون لن يقبلوا بضياع حقوقهم، طالما ظلت مقاومتهم للاحتلال ومشاريع أعوانه قائمة. وليأخذ هؤلاء وغيرهم ممن يسيرون في ركب أمريكا ودول أوروبا، عبرة مما حدث لأكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم. فلو أمعنوا النظر (للحظات) في الأسباب الحقيقية لهزيمة أمريكا في الحروب المعلنة منها والخفية التي شنتها وما زالت على العراق وأفغانستان ومنطقة وزيرستان في باكستان ، لأدركوا أن مشروع المقاومة العربية والإسلامية هو الذي هزم اقتصادها وقوتها العسكرية .. وهو الذي سيبعدها- لا محالة- عن زعامة النظام العالمي الجديد (الذي حاولت تثبيته منذ انهيار الاتحاد السوفييتي دون جدوى)، وبخاصة إذا ما استمرت السير على نهج بوش والمحافظين الجدد في معاداتهم للإسلام والعرب والمسلمين. ولسنا بحاجة للتذكير بأن المبلغ الذي خصصته الإدارة الأمريكية، لمعالجة حالة الانهيار الذي تعرض له النظام المصرفي في أمريكا، والذي يكاد يطيح باقتصادها بل وبالنظام الرأسمالي العالمي، والبالغ 700 مليار دولاراً، هو ذات المبلغ الذي انفقته أمريكا في حربها على العراق وأفغانستان. بل إن فشل أمريكا الذريع في هذه الحرب، دفع بقوى عالمية أخرى للاستقواء به لإفشال محاولة إدارة بوش جعل القرن الحادي والعشرين هو القرن الذي تسود فيها أمريكا على العالم. وهذا ما تمثَّل في الموقف الصارم الذي اتخذته روسيا الاتحادية (الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي المنهار) من الحرب الجورجية التي كانت أمريكا وإسرائيل المحرض على نشوبها، كما تمثل في موقف التنين الأصفر المترقب، من الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها أمريكا في عهد إدارة بوش وعصابة المحافظين الجدد. نقول هذا لاعتقادنا الجازم بأن كل ما أصاب الشعب الفلسطيني بخاصة والشعوب العربية والإسلامية بعامه، من كوارث ونكبات أعاقت مسيرة التنمية فيها .. كان من صنع الولاياتالمتحدة التي تمثل المانع المادي الحقيقي لاستمرار وجود الكيان الصهيوني في هذه المنطقة. وإذا كان هذا الكيان يعتقد- بمنعه وصول المعونات الغذائية والدوائية وغيرها لأهالي القطاع- بأنه قادر على إجبار الشعب الفلسطيني على القبول بشروطه لحل القضية الفلسطينية .. فهو واهم. فاليهود بعامة، والمعمرون من الجنرالات الإسرائيليين بخاصة، يدركون تماماً أن هذا الشعب لن يرضخ لمثل هذه الضغوط القميئة .. وإنه قادرٌ على المقاومة لعقود أخرى طويلة، حتى يحقق هدفه في طرد الصهاينة من أرضه. فهؤلاء عايشوا إضراب الشعب الفلسطينيين طيلة ستة أشهر متتالية، وشاهدوا تصديهم لمائة ألف جندي بريطاني جاءوا لمواجهة الثورات الفلسطينية التي قامت احتجاجاً على السماح ليهود أوروبا بالهجرة لفلسطين وتوطينهم فيها، خلال فترة الانتداب التي انتهت عام 48. والمحاولة هنا لتذكير الأمة العربية بواجباتها نحو الأرض المقدسة وشعبها، سواء في غزه أو الضفة أو في الشتات، لا يعني الصراخ والعويل لاستدرار العطف أو الشفقة، فهذه أمور بعيدة كل البعد عن ذهن الوطنيين الذين يطلبون الشهادة في سبيل الله والوطن، أجل أمثال عناصر المقاومة الفلسطينية التي ترفض إلقاء السلاح في تصديها للعدو، وأمنال أهاليهم الذين يدعمونهم في القطاع والضفة .. وإنما هي دعوة لهذه الأمة، كي تفوق من سباتها، وتنهض من كبوتها، وتدرك جسامة الأخطار المحدقة بها، والتي كاد يتحقق الكثير منها خلال ولاية بوش وشارون، لولا تصدي رجال المقاومة وقوافل الشهداء بعزم للخبائث من أهدافهما، وللكبائر من أفعال الضالين المؤيدين للأجندة الصهيوأمريكية لحل القضية الفلسطينية. فهذه الأزمة وأزمات أخرى أشد وأقوى يتوقع قدومها، سوف تلقى ذات المصير الذي لقيته سابقاتها، وهو الفشل الذريع في تحقيق أهداف أعداء هذا الشعب الصابر .. بعون من الله سبحانه وتعاليى أولاً، وبصمود الشعب الفلسطيني ثانيا، وبدعم الشعوب العربية والإسلامية ثالثاً.