ما لم يقله الأسد لساركوزي عقاب صقر سريعا وصل الحوار حول لبنان بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والرئيس السوري بشار الأسد الى ما انتهى اليه الحوار الغربي عموما والأميركي تحديدا مع الأسد. فدمشق تقدم بيمناها وعودا بالجملة حول الحلول، وتدعم وترتّب بيسراها العراقيل التي تستند الى تسلح سوري بضرورة ان يحظى الحل بإجماع اللبنانيين. علما أن دمشق اجرت انتخابات نيابية ورئاسية نسفت الإجماع اللبناني في العام 92 عندما بلغت ادنى مستوى مشاركة (اقل21%) رافقها تهميش لمعظم القوى السياسية التقليدية وإقصاء كامل للمسيحيين عرف ب«المقاطعة المسيحية». وفي العام 2004 مددت سورية للرئيس السابق إميل لحود متحدية إجماعا عربيا ودوليا، إضافة الى إجماع لبناني على رفض التمديد جاء من حلفاء سورية في لبنان قبل خصومها. بكل الأحوال يأتي حوار ساركوزي مع الإعلاميين الذي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» أخيرا عن «الوصول الى نهاية المسار مع الأسد» ليحمل مؤشرات ثلاثة: هي إحباط فرنسي من ازدواجية الخطاب والممارسة المعتمدة لدى الحكومة السورية، وسعي لدفع سورية وتحفيزها على بذل جهود حقيقية من خلال مواجهتها بواقع موقفها الداعم للتعطيل في لبنان، والالتحام الفرنسي مع الموقف الدولي وبخاصة الأميركي بما يؤسس لتصعيد الضغط على دمشق في أواخر فترة السماح التي أعطيت لها منذ قمة بوش ساركوزي، والتي عبر الرئيس الأميركي عن نهايتها، نظريا، بإشارته الى نفاد صبره من الرئيس الأسد. والخطة الفرنسية كما بات واضحا تقوم على الانفتاح الحذر والمشروط على النظام السوري لتحقيق هدفين استراتيجيين: الأول هو العمل على ايجاد مساحة للتمايز بين دمشقوطهران استنادا الى خلق جدول مصالح وفرص لسورية تغنيها جزئيا عن التبعية المطلقة لإيران. والثاني، ترجمة للأول، يتمثل بخطوات سورية في لبنان وفلسطين والعراق، مقابل عودة النظام السوري الى الحاضنة العربية والدولية، تترجمان في تأمين حصة سورية ضمن «أنابوليس» بكل امتداداته وتتوجان في قمة اذارالعربية «المفترضة» في دمشق. لكن حقيقة ما تريده سورية تختلف عما تفكر أو ترغب به الحكومة الفرنسية والعالم. فالأسد عندما تواصل مع ساركوزي، بعد قمة جمعت الأخير مع الرئيس الأميركي، تواصل معه أساسا كوسيط مع الجانب الأميركي لا كرئيس لفرنسا بوزنها الأوروبي. وعندما يقول ساركوزي: «رايس... ما زالت على خطنا». فجل ما يريد الأسد من هذا القول هو أن تسير باريس على خط واشنطن وأن يكون في خطط الرئيس بوش المستقبلية صفقة مع سورية حول لبنان، وهي صفقة ما زال طعم سابقتها تحت ضرس النظام السوري منذ العام 91. ما لم يقله الرئيس الأسد لساركوزي خلال محادثاتهما الهاتفية الثلاث هو بيت القصيد. فالأسد لم يقل لنظيره الفرنسي انه يرغب في ان تتحول دمشق مجددا الى بوابة ايران نحو العالم العربي والغرب والعكس، وان صفقة البحارة البريطانيين التي لعبت سورية دورا فيها كانت نموذجا، وذهاب سورية الى أنابوليس جاء في السياق نفسه وبتنسيق «مدروس» مع ايران. ولم يقل له انه يعلم أن خطوات من قبيل انسحاب قوات التحالف من جنوب العراق، وإنجاز مؤتمر أنابوليس الذي يعزز محور الاعتدال العربي وفرص التسوية «السلمية»، وحل الأزمة اللبنانية من دون حكومة يكون لقوى 8 آذار فيها «نصيب الأسد» كلها أمور ستفقد إيران وسورية هامش المناورة مع اميركا في المنطقة، وتترك طهران في مواجهة مكشوفة مع واشنطن والمجتمع الدولي حول جموحها النووي، وهي التي لطالما رغبت في تحويل صراعها القومي مع واشنطن الى حرب إسرائيلية عربية، وإسلامية غربية حول استعادة القدس وتحرير العراق وحماية جنوب لبنان. لم يقل له انه رفض، عن سابق تصوّر وتصميم، سياسة اليد السعودية الممدودة التي اعتمدها الملك عبد الله خلال زيارته التاريخية الى سورية بعد اغتيال الرئيس الحريري، عارضا على الأسد دخول البيت العربي من أوسع أبوابه. وكان في نية المملكة تدعيم الاستراتيجية الجديدة لمحور عربي يغادر مفردات التبعية، في ظل التجاذب بين القوى الدولية العظمى والقوى الإقليمية الكبرى الذي يخاض فوق ارض العرب وبدمائهم. كل ذلك رفضه الأسد ليملأ الفراغ الذي خلفته القطيعة مع واشنطن بتلازم المسار والمصير مع إيران، مطلّقا العرب ومحورهم الوليد طلاقا بائنا عبر خطابات نارية وسلوك في العراق وفلسطين ولبنان خرق سقف البيت العربي وكاد يهدم جدرانه. لم يقل له ان سورية ما زالت على استراتيجيتها التاريخية وهي الرهان على الزمن الذي يكفل وفق حساباتها انهيار القوى المناوئة لها في لبنان، إن لم يكن بالسيف فبغيره، وتهاوي السلطة الفلسطينية بين انقلاب حماس وتقلبات قادة إسرائيل، وسقوط الحكومة العراقية في القبضة الإيرانية بفعل تلاشي النفوذ الأميركي في العراق، وتراجع صعود المحور العربي الجديد القائم على حماية السلام العادل بعوامل القوة الذاتية وبعلاقات دولية ندية، ويأس المجتمع الدولي من مقارعة المحور السوري الإيراني بما يؤدي الى التسليم له في إدارة شؤون المنطقة. ولم يقل له انه ينتظر «ايران نووية» ليفرض معها وجهة سير المنطقة ومساراتها. وأخيرا لم يقل له إن سورية لن تتخلى بأي ثمن عن لبنان الذي يمثل لها امتدادا في السياسة والجغرافيا وفي الجغرافيا السياسية، وإن استرجاع سورية للقرار اللبناني يعيدها دولة إقليمية، هي التي صارت عقب انسحابها «غير المشرف» من لبنان مجرد تابع للاعب الإيراني، فأضحت توازي بالمرتبة حزبا كحزب الله أو حركة كحماس. ما سكت عنه الأسد في محادثاته مع ساركوزي هو أهم ما يدور في رأسه، ويختصر هواجسه حيال نظامه الواقع بين سندان السياسة الأميركية الجديدة في المنطقة ومطرقة المحكمة الدولية التي فعّلها الاجتماع الإقليمي على هامش مؤتمر باريس للدول المانحة الأخير، وهو الأمر الذي فاجأ سورية، كما قال الوزير المعلم، والأصح انه أقلقها لكونها قرأت فيه تصعيدا يجسّد سياسة العصا الدولية الإقليمية المترافقة مع الجزرة المقدمة بيد فرنسية بدأت تتردد. ولعل هذا ما دفع بالمعلم الى التصعيد حيال الولاياتالمتحدة، واعتبار حكومة الوحدة الوطنية اللبنانية مع الثلث الضامن ل«8 آذار» بأهمية الرئاسة، ما يعني ان تأليف الحكومة سيشكل عقبة تشبه أزمة الرئاسة القائمة في وجه اللبنانيين والعرب والمجتمع الدولي. المشكلة الكبرى أن ما ينتظره الأسد من ساركوزي والغرب مختلف تماما عما ينتظره الغرب والعرب من الأسد. أما لبنان فهو واقع في المركز من هذه الحلقة المفرغة. والى حين توحيد الانتظارات بين الجانبين سيبقى الأسد يقدم للغرب أقوالا تطربهم من دون أفعال، ربما لأنه يبادلهم بضاعتهم، فهم لا يقدمون برأيه إلا الأقوال، وحتى عندما يهددونه يعتمدون سياسة الخطابات الرنانة. وما كلام بوش الأخير عن دعم العالم لانتخابات رئاسية لبنانية بنصاب «النصف + 1» إلا ضرب من البلاغة الشعرية التي تشبه اسطوانة مشروخة لرباعيات أندلسية. وحده محور الاعتدال العربي هو من قدم عبر الرياض ثم عمان عروضا ملموسة لسورية، لكن الأسد يرضى بنصف ما قدّمه العرب شرط أن يأتيه من واشنطن أو عبرها لأنها الضمانة الحقيقية ل«سورية إقليمية». تبقى ملاحظة لبنانية أخيرة على كلام ساركوزي الذي تضمن في سياق معالجته للمشكلة اللبنانية إشارة الى سورية ومصالحها وإيران وبرنامجها النووي مضافا الى حزب الله وهواجسه، ولم يأت بالذكر، تصريحا أو تلميحا، على الآلية الداخلية للأزمة اللبنانية التي انتهت الى ورقة سرية في جيب العماد ميشال عون. لماذا هذا الإهمال المتعمّد؟ ربما لأن الرئيس الفرنسي يعتبر أن الورقة التي في جيب العماد عون هي مجرد وديعة لا شأن له بها ولا شأن لها به، وذلك وفق مقاربة استراتيجية الى المشهد اللبناني. وعليه فهو ينظر الى لبنان بأسره كمجرد ورقة في الجيب الإيراني السوري الذي يحوي أوراقا كثيرة قابلة للّعب والمقايضة. عن صحيفة الشرق الاوسط 27/12/2007