ساركوزي والجزائر "أكل الغلة وسب الملة" العربي مفضال تتميز العلاقات بين الجزائروفرنسا بالعمق والتنوع. فبالإضافة إلى المستوى الاقتصادي الذي تحتل في إطاره باريس المرتبة الأولى ضمن مموني السوق الجزائرية، والمرتبة الثانية من حيث حجم الاستثمارات الخارجية، تحتضن الديار الفرنسية أكبر جالية جزائرية في الخارج، ويوجد ضمن المواطنين الفرنسيين عدد مهم من المنحدرين من أصل جزائري. وعلى الرغم من مرور خمس وخمسين سنة على استقلال الجزائر، وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في مجال تعريب الإدارة العمومية، فإن اللغة والثقافة الفرنسيتين ما زالتا حاضرتين بقوة على الساحة الجزائرية، وهناك تجدد للاهتمام باللغة الفرنسية في التعليم خلال السنوات الأخيرة. وهاهي الجزائر تلتحق بمنظمة البلدان الفرانكفونية بعد عقود من الرفض والتمنع. ولكن العلاقات بين الجزائروفرنسا تتميز كذلك بنوع من التوتر المستمر الذي يحتد تارة ويلتهب، ثم يهدأ ويبرد في انتظار فورة جديدة. ويرتبط هذا التوتر المستمر بالماضي الاستعماري الفرنسي في الجزائر وبالطابع الخاص لهذا الاستعمار باعتباره استعماراً استيطانياً صادر مقومات الوطنية الجزائرية المستقلة، واعتبر الجزائر أرضا فرنسية، وأطلق أيدي المستوطنين الفرنسيين في هذه الأرض، وتعامل مع أصحاب الأرض الحقيقيين بلغة وحيدة تقريباً هي لغة القمع والاضطهاد وصولاً إلى الإبادة الجماعية، كما حصل في مدينة سطيف في الثامن من مايو/ أيار من سنة ،1945 وكما حصل أثناء الثورة الوطنية الجزائرية التي قادتها جبهة التحرير الوطني الجزائري خلال الفترة الممتدة من سنة 1954 الى 1962. وفضلاً عن القمع الاستعماري الذي اتخذ أشكال المذابح الجماعية، وتعذيب وإعدام المعتقلين والأسرى، جند المستعمرون عشرات الآلاف من القرويين الجزائريين البائسين في حربهم ضد الوطنيين، ثم تخلوا عنهم بعد اتفاق وقف إطلاق النار، وتركوهم لقمة سائغة للثوار الذين ظلوا يعتبرونهم خونة لوطنهم. وحتى الفئة القليلة من أولئك البائسين التي تمكنت من الهروب إلى البر الفرنسي لقيت من حكام فرنسا ومجتمعها أسوأ معاملة. ولم تنطلق عملية إعادة الاعتبار إلى هؤلاء الذين أطلق عليهم اسم “الحركيين" إلا في السنوات الأخيرة. ولكن إعادة الاعتبار هذه تحولت إلى إساءة للثورة الجزائرية، وتنويه بخونتها، وتمجيد للاستعمار. وتركت التجربة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر والحرب التحررية التي خاضتها هذه الأخيرة وانتهت بانتزاع استقلالها الوطني، جراحاً وندوباً لدى قسم من الفرنسيين الذين كانوا قد استوطنوا الجزائر واعتبروها تراباً فرنسياً، وذلك بسبب الضربات التي كالتها لهم المقاومة الجزائرية، وبسبب اضطرارهم لترك ما كانوا يملكون من مزارع وعقارات، وهروبهم إلى بلادهم الأصلية، وعدم استفادتهم من أي تعويض عما كانوا يمتلكون. وعلى الرغم من الانتعاش الكبير الذي عرفته حقوق الإنسان على الصعيد العالمي في السنين الأخيرة، والاستعداد المتنامي لتفهم معاناة الجماعات والشعوب التي تعرضت للاستعباد والإبادة والاضطهاد.. وعلى الرغم كذلك، من الحقائق الصارخة التي تم كشفها في موضوع الاعتقالات والإعدامات الجماعية وشتى أنواع التعذيب التي تعرض لها الوطنيون الجزائريون وحتى بعض مناصريهم من الفرنسيين، على الرغم من ذلك قد واصل حكام فرنسا رفضهم لأي نوع من أنواع الاعتراف بذنوبهم والاعتذار عنها. وفوق ذلك، تمكن المستوطنون الفرنسيون السابقون في الجزائر، ومعهم الحركيون، من ممارسة تأثير قوي في معظم النخبة السياسية الفرنسية. ولم يعزز هؤلاء موقف رفض الاعتراف والاعتذار لدى ساستهم فحسب، بل سعوا،بكل قوة، إلى التأثير على هؤلاء الساسة ودفعهم إلى الانتقال من الدفاع إلى الهجوم في مواجهة الجزائر، ومطالبتها بالاعتذار عما لحق بالمستوطنين، وبإعادة الاعتبار إلى الحركيين. وإذا كان من الممكن، في بعض الأحيان، تفهم الصعوبات التي تحول بين غالبية السياسيين الفرنسيين وبين إيجاد صيغة مقبولة للاعتراف بسيئات الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وفي مقدمة هذه الصعوبات إغضاب جزء من الناخبين، فإن المستغرب كثيراً هو اندفاع الجانب الفرنسي، بين الفينة والأخرى، إلى استفزاز الجزائريين بصورة مجانية أحيانا. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى الدفء الذي طبع العلاقات بين باريس والجزائر في بداية العقد الجاري، والذي عبر عن نفسه في الاستقبال الجماهيري الاستثنائي الذي حظي به الرئيس شيراك سنة 2003 في الجزائر. وعلى أساس ذلك اتجهت العاصمتان الفرنسية والجزائرية إلى إعداد معاهدة للصداقة وحسن الجوار، ولكن اندفاع البرلمان الفرنسي سنتي 2004 و،2005 في المصادقة على قانون يمجد الاستعمار في الجزائر وينوه بالخونة الذين قاتلوا شعبهم، عاد بالأمور إلى الوراء، وجعل من اعتراف باريس بمظالم الاستعمار الفرنسي مطلباً يصعب على الجزائريين التفريط فيه. وبموازاة قانون فبراير/ شباط 2005 المشار إليه، توالت مبادرات إعادة الاعتبار لأنصار “الجزائر الفرنسية" و"الحركيين". وفي السياق نفسه، شن نيكولا ساركوزي، خلال السباق الرئاسي الفرنسي الأخير، حملة شعواء ضد ما سماه “طلب المغفرة" من الجزائريين، ولم يتردد في وصف هذا الأمر، عشرات المرات، ب"الكريه". والمثير في الأمر أن الرئيس الفرنسي، وهو يعود إلى التهدئة قبيل زيارته للجزائر أيام ،3 4 و5 من الشهر الجاري، يدعو الجزائريين إلى الاهتمام بالمستقبل بدل الماضي، وينتقد “الاستغلال السياسي" لهذا الموضوع.. تناسى بسرعة ما قام به من استغلال للموضوع خلال حملته الانتخابية من اجل استرضاء ناخبي اليمين العنصري المتطرف. وحين استاء الرئيس ساركوزي من تصريحات وزير المجاهدين الجزائري التي ذكرت بالأصول اليهودية للأول وبدور “اللوبي اليهودي" في فوزه بالمقعد الرئاسي، تم تناسي المحاولة الاستفزازية التي أقدم عليها الرئيس الفرنسي حين ضم إلى الوفد المصاحب له في زيارته الجزائرية شخصية يعارض غالبية الجزائريين دخولها إلى بلادهم، ويتعلق الأمر بالمغني الفرنسي اليهودي انريكوماسياس المنحدر من الجزائر والمحسوب على المستوطنين الفرنسيين السابقين فيها، والمناصر ل"إسرائيل". وإذا كان الرئيس ساركوزي، قد تراجع قليلاً خلال زيارته الجزائرية الأخيرة، ودان النظام الاستعماري الذي كان مجحفاً ومخالفاً لمبادئ الحرية والعدالة والأخوة التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية.. فإنه تحدث عن جرائم مرتكبة من الجانبين الجزائري والفرنسي وساوى بين قتلى المستعمرين وشهداء الاستقلال الوطني الجزائري، وبذلك ترك ملف الماضي الأسود مفتوحا. ولكن التوتر المستمر بين الجزائريين والفرنسيين، المرتبط بالماضي الاستعماري لهؤلاء الأخيرين لم يحل دون تعزيز العلاقات اللغوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بين الجانبين. وأولى الجانبان، بمناسبة الزيارة، أهمية خاصة للقفز بالعلاقات الاقتصادية إلى الأمام. وإذا كان الفرنسيون يحضرون على الساحة الجزائرية بحوالي 250 من فروع شركاتهم، ويحتلون المرتبة الأولى ضمن المستثمرين الأجانب خارج قطاع المحروقات، فإنهم يستعدون لاحتلال نفس المرتبة على الساحة الاقتصادية الجزائرية عامة. وتم قطع خطوة كبيرة في هذا الاتجاه حين تم توقيع اتفاقيات وعقود، يوم الثلاثاء الأخير، بلغ غلافها المالي 5 مليارات دولار نصفها يتعلق بالغاز والنفط. وتعتبر الجزائر اليوم، بفضل عائداتها المتعاظمة من الغاز والنفط، ورشاً كبيرة لإقامة التجهيزات التحتية المتعلقة بالطرق السيارة والسكة الحديدية وخطوط الترام، علاوة على المشاريع السكنية والسياحية والصناعية. وتتسابق على الساحة الجزائرية شركات من مختلف أنحاء العالم وخاصة من الصين واليابان وتركيا ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر. وتتطلع فرنسا إلى اقتحام المنافسة والظفر بنصيب مهم من “الغلة الجزائرية". وبدورها، تتطلع الجزائر إلى كسب عروض، واستقطاب استثمارات فرنسية جديدة. عن صحيفة الخليج الاماراتية 9/12/2007