إيران وباكستان.. أيهما أحق بالأولوية في الغزو؟ جميل مطر ربما يكون صحيحاً القول الذائع: إن التاريخ لا يعيد نفسه. وربما يكون صحيحاً أيضاً القول إن أحداثاً معينة تأخذ عند حدوثها وتسلك في مساراتها أنماطا معينة، فتبدو وكأنها معادة أو صور تشبه أحداثا سبق وقوعها. وقد لا نجد نموذجا يشرح هذا القول ويبرر صحته أفضل من النموذج الذي تجسده حالة الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف. فما يحدث في باكستان هذه الأيام أشبه ما يكون بما حدث في إيران عام 1979 حين كان الشاه معزولاً عن شعبه وجيشه والطبقة الحاكمة، وحين ترددت الولاياتالمتحدة في دعمه أو ربما شجعته على تقديم تنازلات والتحالف مع قوى معارضة، وفي النهاية بدت أمام العالم وكأنها تتخلى عنه. ولا شك أننا نذكر خاتمة هذه المرحلة لأنها مازالت ماثلة في تداعياتها، إذ تولت الحكم في طهران طبقة دينية غيرت إيران من الداخل كما غيرت سياسات إيران الخارجية ووضعتها في موقع المواجهة مع الولاياتالمتحدة بعد أن كانت حليفاً قوياً يعتمد عليه إلى أقصى الحدود، وخرج الشاه من بلاده باحثاً عن مكان يأويه وحكومة تحميه. ولا أريد الإيحاء بأن رحلة الرئيس مشرف إلى الجزيرة العربية الأخيرة كانت بهدف الاطمئنان على مكان يلجأ إليه إذا تدهورت حال نظامه، وإن كنت أتصور أن واشنطن لن ترغب في الظهور عندئذ كراعٍ لمشرف أو حامية له، وهو بالضبط ما فعلته مع الشاه في 1979. كذلك لا يختلف الوضع الراهن في باكستان كثيراً عن أوضاع مماثلة في تاريخ باكستان. مشكلة مشرف الحقيقية ليست، ولم تكن، مع التطرف ومواجهة التطرف، بل كانت مع الديمقراطية ومواجهة المجتمع المدني. وهي المشكلة نفسها التي واجهت الجنرال أيوب خان إلى أن قام الجيش بإزاحته في عام 1969 لتفادي فوضى في البلاد بسبب الغضب الشعبي، وهي مشكلة ذو الفقار علي بوتو في أواخر عهده ومشكلة نظام الجنرال ضياء الحق الذي أطاح بنظام بوتو. إذ كانت ثورة الجماهير هي التي دفعت الجيش في كل حالة إلى التدخل لمنع انفراط باكستان وانتشار الفوضى، وفي كل الحالات كان السبب هو العجز في الديمقراطية. لم يأت الرئيس مشرف بجديد حين توسع في استخدام قوانين استثنائية وإعلان حالة الطوارئ. ولم تكن باكستان فريدة ولا مشرف فريدا بين دول وزعماء في العالم الإسلامي حين قرر الاحتماء بالطوارئ. وفي باكستان، كما في غيرها، لم تكن حالة الطوارئ دائما على درجة واحدة أو مستوى واحد لأنها، كما يقول المفكر الباكستاني الأصل طارق علي، كالمضادات الحيوية يجب أن تتضاعف الجرعة منها مع مرور الوقت واستمرار المرض، إذ يضعف مفعولها بتكرار تعاطيها. والجسم السياسي يتعود على حالة الطوارئ وقوانينها وإجراءاتها فتفقد بالتدريج تأثيرها تماما كما يحدث مع الجسم البشري حين يتعود على المضادات الحيوية وإن زادت جرعاتها. ما لا يدركه الكثيرون هو أنه كما يترك المضاد الحيوي الجسد أضعف مما كان عليه قبل تعاطيه، كذلك تترك حالة الطوارئ المجتمع في حال أسوأ كثيرا مما كان عليه قبل فرضها. ويقول عمران خان النائب في البرلمان الباكستاني وأحد كبار قادة المعارضة إن حالة الطوارئ تؤدي إلى إذلال المجتمع المدني والحط من كرامة الإعلاميين ورجال القضاء وتقزيم المؤسسات، كما أنها تقلل من قيمتها وقيمة المواطن الفرد. ويدعو خان إلى رفعها فورا، وهدد مثل غيره بأنه لن يشترك في انتخابات عامة إلا إذا استعاد القانون مكانته. وفي باكستان، كما في عدد من الدول الإسلامية، يلعب السياسيون بأخطر ألعاب السياسة ولا يستفيدون من دروس الماضي والحاضر معاً. فقد حاول مشرف شراء ولاء الأحزاب الإسلامية وسمح لنوابها بإصدار تشريعات وقوانين دينية مقابل وقوفها ضد الأحزاب “المدنية" وضد المتطرفين. لم يدرك مشرف، ولا حلفاؤه الأمريكيون، أن استمالة تيار ديني مهما كانت درجة تطرفه، سوف تفرز على الفور تيارا دينيا آخر أشد تطرفا، فالتطرف الديني إن حكم أو تحكم وهيمن، يتبعه بالضرورة، تطرف ديني أشد في المعارضة. هذا ما تؤكده، على الأقل، تجارب عربية معاصرة. ولم يكن مشرف استثناء بين أقرانه في كثير من الدول، ومنها روسيا وفنزويلا، حين أعلن منذ أيام أنه لا خلاص لبلده إلا باستمراره في الحكم، مؤكدا تحذيره المتكرر أنه لو غاب عن الصورة ستتعرض باكستان لهيمنة قوى التطرف، وربما انفرطت. وقال إنه الضمانة الوحيدة لعدم وقوع غزو أمريكي كالغزو الذي يهدد إيران والغزو الذي دمر العراق، وإنه الوحيد الذي يمكنه درء الضغوط الأجنبية ورفض التدخل الخارجي في شؤون باكستان. هكذا يدغدغ الرئيس مشرف الوتر الحساس في باكستان، والحساس أيضاً في دول إسلامية كثيرة. يعرف مشرف أن أمريكا مرفوضة، أو على الأقل غير مرغوبة، لدى أكثرية الشعوب العربية والإسلامية، ولذلك ففي الوقت الذي يحاول فيه كسب دعم أمريكا باستخدام الطريقة نفسها، أي دغدغة وترها الحساس، بمعنى تضخيم خطر التطرف الديني داخل باكستان والإيحاء بحماسته للحرب العالمية ضد الإرهاب، يحاول أيضاً كسب دعم الجماهير الباكستانية بالتلميح أو التصريح بوجود تهديد حقيقي بغزو أمريكي لباكستان. بل وذهب أبعد من ذلك حين أوحى لأجهزة الإعلام الباكستانية بضرورة الإشارة المتكررة إلى أن بي نظير بوتو، ونواز شريف عادا إلى باكستان بتوجيهات من الولاياتالمتحدة التي تريد فرضهما على الشعب الباكستاني. ولعل عمران خان كان يؤكد هذا المعنى حين قال إن الاقتراب، أو حتى شبهة الاقتراب، من أمريكا سيكون بمثابة قبلة الموت لأي سياسي باكستاني في الأيام القادمة. ومن ناحيتها تواصل واشنطن سياسة تأليب حلفائها ضد بعضهم البعض، تفعل هذا مع حلفائها في الشرق الأوسط، وتفعله في باكستان حيث لا يوجد فيها صديق لأمريكا لا يكره صديقا آخر لأمريكا. بمعنى آخر كل أصدقاء أمريكا أعداء لبعضهم البعض. يبقى الدور الخارجي، وبمعنى أدق الدور الأمريكي، والجديد فيه مهم وخطير. فقد خرج مفكرون وسياسيون أمريكيون إلى العلن يدعون إلى تعديل في أولويات العمل الإمبراطوري الأمريكي يقضي بتأجيل الحرب ضد إيران إلى ما بعد الحرب ضد باكستان. يقول فريدرك كيجان الباحث اليميني المحافظ وأحد كبار مستشاري بوش لشؤون العراق ومايكل هانلون الليبرالي والقريب من قيادات الحزب الديمقراطي في مقال مشترك، إن أهم مهمات بوش الآن هي مهمة الإسراع بوضع القنبلة النووية الباكستانية في أيد أمينة، وهي المهمة التي لن تتحقق إلا بغزو عسكري أمريكي عاجل. ويثق الكاتبان المعروفان في أن القوى المعتدلة في الجيش الباكستاني ستدعم الغزو الأمريكي لأنها “مثلنا" تخشى وقوع القنبلة في أيد غير أمينة. بمعنى آخر فإن وقوع قنبلة نووية جاهزة الصنع في أيدي “مجاهدين" أو ميليشيات قبلية في باكستان خطر أشد إلحاحاً من انتظار تصنيع حكومة إيران الإسلامية قنبلة نووية. ولا تخفى أهمية هذا “المقال المشترك"، فهو يعبر عن موقف واحد لقيادتي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، وكان بمثابة الطلقة الأولى في حملة إعلامية وبحثية تدعو إلى الاستعداد لغزو باكستان قبل ضرب إيران. مازالت التجربة الأمريكية في العراق تلقي بظلال متناقضة على السلوك الخارجي الأمريكي، فالنقاش دائر في لاتامبا بولاية فلوريدا حيث مقر قيادة القوات الخاصة حول ضرورة البدء في “شراء" بعض القبائل لمطاردة الطالبان والقاعدة كما فعلت قيادة القوات الخاصة مع قبائل الأنبار في العراق، ودائر أيضا في واشنطن حول مرحلة ما بعد مشرف والثقة الأمريكية في أن المعتدلين في الجيش الباكستاني سيرحبون بالقوات الأمريكية التي سيتقرر إنزالها في باكستان لاحتلال مناطق الحدود وتدريب القبائل. وليس مستبعداً أن يكون هناك نقاش في دوائر بحث مازالت مغلقة يدور حول مصير الجهاز القضائي الباكستاني المعروف بتعاطفه مع الطالبان، ومصير الترسانة النووية وعلماء الذرة والفيزياء والرياضة البحتة في الجامعات ومراكز البحث الباكستانية، بل ومصير باكستان نفسها كدولة تضم أعراقاً ومللاً ومذاهب شتى وتنجرف بسرعة جنونية نحو هاوية الفوضى. عن صحيفة الخليج الاماراتية 29/11/2007