العراق وأميركا: اتفاق أمني. . أم تمديد الاحتلال؟! د. علي حمد إبراهيم جماهير عراقية غفيرة انطلقت الى الشوارع والطرقات العامة ترغي وتزبد وتندد بالاتفاق الامني العراقي الاميركي الذي بات قاب قوسين او أدنى من الاجازة النهائية. الشعب العراقي استفزه أن يرى حكومته وعلى مدى شهور وهي تغالب الضغوط الاميركية التي تريد لها أن تقبل بنودا في الاتفاق هي تمديد للاحتلال الاميركي للعراق بصورة او بأخرى. مثل البند الذي يعطي القوات الاميركية حق البقاء في العراق بعد فترة الثلاث سنوات التي يقرها الاتفاق بداية اذا طلبت منها الحكومة العراقية البقاء. ويقول معارضون لوجود القوات الاميركية فوق التراب العراقي، إنه في ظل الضغوط الاميركية القوية التي تمارس على الحكومة العراقية الضعيفة، فان طلب التمديد سيأتي لا محالة. الاتفاق الأمني بين الحكومة العراقية المغلوبة على امرها، وبين الحكومة الاميركية لا يثير حفيظة الشعب العراقي فحسب، انما اثار ويثير حفيظة وقلق حتى القيادات العراقية العليا التي تفاوض على الاتفاق رغم غرابة الامر. فها هو نائب رئيس الوزراء العراقي السيد ( برهم صالح) يقول في تصريح صحفي إن حكومته ستتعرض لامتحان عسير عندما تشرع في شرح الاتفاق الامني للشعب العراقي. مفهوم جدا أن يكون شرح الاتفاق للشعب العراقي بمثابة الامتحان العسير بالنسبة للحكومة العراقية. فالاتفاق يسوغ للشعب العراقي بقاء قوات الاحتلال الاميركي ثلاث سنوات اخرى في الارض العراقية. ويفسح المجال امام هذه القوات لطلب تمديد بقائها مدة اضافية غير محددة. أسباب وقوع الحكومة العراقية في هذا الحرج امام شعبها مفهومة.ويبدو مفهوما كذلك لماذا وضع القادة العراقيون انفسهم في هذا الحرج اساسا ؟ لقد وضع القادة انفسهم في حرج امام شعبهم لأنهم اضاعوا السنين وراء السنين في مجادلات ومجالدات طائفية وعشائرية ومذهبية عقيمة دون انجاز شيء يذكر لصالح لملمة شعث شعبهم وتوحيد جبهته الداخلية التي تغنيه عن اللجوء الى القوات الاميركية في كل صغيرة وكبيرة تطلب عندها النجدة والدعم. وطالما أن القادة العراقيين عجزوا في انجاز المهام الاساسية والضرورية التي تعينهم على الوقوف على ارجلهم بقوتهم الذاتية، فلا مناص من أن يصبحوا عرضة لضغوط القوات الاميركية التي باتت تقدم اسباب الحياة للنظام الذي بني لهم،والذي عجزوا وعلى مدى سنوات عن تقويته وتثبيته الا بدعم هذه القوات الاميركية. من هنا كان لا بد أن تكبر الفاتورة المعنوية التي يجب ان يدفعها الشعب العراقي من كرامته وكبريائه. ولأن هذه الفاتورة كبيرة بصورة استفزازية، فهاهو الشعب العراقي يهدر في الطرقات مغاضبا ورافضا امتهان كرامته. لأنه يرى حكومته تطلب تنازلات من قوى اجنبية ان تتنازل لها عن بعض المطلوبات السيادية الضرورية في بلدها كأن تكون الولاية القضائية فوق كل من يعيش فوق التراب العراقي للقوانين العراقية، وكأن تكون السيطرة على المجال الجوي العراقي، وكأن تكون السيطرة على الحدود العراقية للدولة وللحكومة العراقية بدون منازع. بل ولا يمكن أن تطرح أيلولة الولاية على هذه المظاهر السيادية للنقاش مع اية جهة. ولكن الاتفاق الامني الاميركي - العراقي يعفي الجنود والمسئولين الاميركيين من الخضوع لأية ولاية قضائية عراقية طالما كانوا يقومون بأعمال رسمية او طالما في معسكراتهم أو يؤدون واجبات رسمية. ويجب ان نتذكر ان الجنود الاميركيين الذين ارتكبوا فظائع ابوغريب كانوا يؤدون اعمالا رسمية، وكانوا موجودين في الامكنة التي حددت لهم للبقاء فيها ولم يكونوا يتجولون في الطرقات في عطلة نهاية الاسبوع ! وطالما كان الامر كذلك فمن حق الشعب العراقي أن يقلق من ورود مثل هذه الصياغات القانونية المغلفة بالغموض المقصود في الاتفاق الامني. ان الجندي الاميركي الذي يرتكب الفظائع ضد افراد من الشعب العراقي لا يمكن مساءلته امام المحاكم العراقية الا اذا كان شخصا معتوها يذهب الى الحارات الشعبية العراقية عندما يكون في عطلة نهاية الاسبوع - مثلا - ويكون خاليا من اية مسئولية او تكليف وخاليا كذلك من عقله. في هذه الحالة فقط تنطبق عليه القوانين العراقية كما تقول ديباجة الاتفاق الامني. مثل هذه الحالة يندر وجودها كما يندر وجود لبن الطير في البرية. اما حالات جنون وغطرسة الجنود الاميركيين التي شاهدناها في الحلة وفي ابو غريب وفي غيرها، فلا يشير اليها الاتفاق لأن حدوثها متوقع، ولا يريد الاميركيون ان يذكروا في الاتفاق اشياء إن تبد لهم تسؤهم. . وتتحدث المصادر العراقية عن (تنازلات) مهمة قدمتها الولاياتالمتحدة للحكومة العراقية في مجالات تنسيق العمليات العسكرية او في مجال السيطرة على المجال الجوي العراقي. وفي مجال السيطرة على الحدود العراقية. اننا نهنئ الحكومة العراقية على حصولها على تلك (التنازلات) التي اعادت للعراقيين بعض الحقوق السيادية الوطنية العراقية التي قبلت الحكومة العراقية ان تكون محل تفاوض مع الجانب الاميركي. والتي يشكر الجانب الاميركي على تفضله بالتنازل عنها للجانب العراقي ! رغم ان تلك المظاهر السيادية هي من المظاهر التي اعتادت الدول ألا تسمح بنقاشها مع اي طرف خارجي. او حتى مجرد الاقتراب من مناقشتها. ربما كان هذا هو التفسير الوحيد لرد فعل الشعب العراقي الغاضب ازاء الاتفاق الامني والذي شاهده كل العالم في شكل مظاهرات عارمة سيرتها الجماهير رافضة تجديد بقاء القوات الاميركية في اراضيها. وعرف العالم كذلك موقف المشرعين العراقيين الذين رفضوا الاتفاق بالصورة التي سيقدم بها للبرلمان العراقي. ولا يختلف احد من الناس مع السيد نائب رئيس الوزراء العراقي في قوله ان مجرد تقديم مشروع الاتفاق الامني الى الشعب للحصول على موافقته عليه هو بمثابة امتحان عسير لحكومته. ولكن الامر سيكون عسيرا على الشعب بقدر اكبر: أن يجد الشعب نفسه بعد سنوات من الاحتلال الاميركي لبلده، وهو يستجدي الولاياتالمتحدة أن تمنحه حق السيطرة على اخص خصوصياته السيادية : السيطرة على مجاله الجوي، وعلى حدوده الدولية، والسيطرة المنفردة على اي تحرك عسكري داخل اراضيه. وعندما ( تستجيب ) الولاياتالمتحدة، وتنظر بعين الاعتبار في مطالب الحكومة العراقية، وتقدم بعض (التنازلات) تقدر لها الحكومة العراقية تنازلها الكبير هذا بما يشبه الشكر والامتنان. صحيح أن الحكومة العراقية تعرضت الى تمارين طويلة وقاسية من الشد والجذب خلال الشهور القليلة الماضية وهي تفاوض السيد المحتل لكي تصل معه الى هذا الاتفاق. لقد قلنا من قبل ان مساحات المناورة امام الحكومة العراقية قليلة. فقد فشلت وبعد سنوات من المحاولات، في أن تلملم جبهتها الداخلية، وفي تقوية وتطوير قواتها الامنية، وفي بناء قدراتها العسكرية بصورة تجعلها تستغني عن خدمات القوات الاميركية التي لا تأتي الا مصحوبة باشتراطات تشرخ في صميم السيادة الوطنية. وطالما ان الحكومة العراقية لم تحقق ماكان يجب أن تحقق، فقد تحتم عليها أن تقبل هذه الجرجرة الدؤبة، وهذا الترويض الطويل الذي يبرع فيه المحتل الاجنبي حتى يقبل المروض اخيرا بما لا بد من قبوله. وهذا ما حدث في حالة الحكومة العراقية التي يعترف نائب رئيس وزرائها بأن مجرد تقديم حكومته للاتفاق الامني المحتشد بالتنازلات الحساسة للجانب الاميركي يعرضها الى نوع من الامتحان العسير. إن السيد نائب رئيس الوزراء يعلم قبل غيره ان الحديث عن تفويض اممي ممنوح للولايات المتحدة في العراق ما هو الا مغالطة مردودة. فالولاياتالمتحدة كانت موجودة في العراق بحق الغزو الذي حسبته مهمة سهلة في بادئ الامربحسب تقديرات المجموعة المهووسة من المحافظين الجدد التي خططت لغزو العراق . وعندما اهتزت الارض تحت اقدام الغزاة، بحثت اميركا عن مخرج. ومن ثم اخرجت للعالم حكاية التفويض الاممي لها بادارة الاوضاع في العراق. تفويض بعد احتلال العراق وتدميرمدنه وقراه ومرافقه، وتقتيل شعبه بالألوف. ان فزورة التفويض الاممي لم يشترها احد من الولاياتالمتحدة في الامس القريب. وبالتأكيد فان احدا من الناس لن يشتريها من الحكومة العراقية. ولكن الولاياتالمتحدة نالت مبتغاها وحصلت على تجديد بقائها في العراق لمدة ثلاث سنوات تبدأ بعد انتهاء ما سمي بالتفويض الاممي الذي كان في حقيقته غطاء للاحتلال الاميركي المنفرد الفاشل . ونالت الولاياتالمتحدة من الحكومة العراقية بنودا تحمي جنودها من مغبة الوقوع تحت طائلة القوانين العراقية حال ارتكابهم فظائع من عينة ما ارتكبوه من فظائع في ابوغريب وفي الحلة وفي المحافظات الاخرى. الشيء الوحيد الذي لم تحصل عليه الولاياتالمتحدة او الحكومة العراقية هو قبول الشعب العراقي ببنود هذا الاتفاق الذي يعطي الولاياتالمتحدة امتيازات لقواتها ولمسئوليها في العراق تمس السيادة الوطنية في صميمها. يدل على رفض الشعب العراقي لهذا الاتفاق موقف الاحزاب وموقف المشرعين والبرلمانيين العراقيين وجميعهم يطالبون بتعديل الاتفاق الامني في شكله ومضمونه الحالي. لقد كان طموح ادارة الرئيس بوش في العراق كبيرا في بادئ الأمر. وزير دفاعها السابق تحدث عن البقاء في العراق لعقود من الزمن وتحدث مستشارون عسكريون عن بناء قواعد عسكرية، وتحدث مستشارون دبلوماسيون عن بناء اكبر سفارة للعراق في العالم، تكون نقطة ارتكاز للقفز منها على الشرق الاوسط الكبير. ومركزا لادارة حروب اميركية ضد الارهاب، ومن أجل الحروب التجارية والعسكرية والسياسية. وتحدث خبراء اقتصاديون عن استغلال بترول العراق بصورة تفيد العراق وتجعله قادرا على تحمل نفقات تنميته بالكامل. وكذلك تفيد الولاياتالمتحدة. ولكن هذه الامال تبخرت منذ الاسابيع الاولى للاحتلال. فقد قوبل الاميركيون في العراق كما يقابل اي محتل اجنبي ودفعوا ارواحهم واهدروا دماءهم ثمنا لتقديرات قادتهم الخاطئة. وتبخرت آمالهم في الكنز البترولي العراقي، مثلما تبخرت امانيهم في ديمقراطية العراق المزدهرة. على مستوى الآمال التي جاشت في افئدة الاميركيين وهم يحملون عتادهم الحربي ويندفعون نحو العراق. اما على مستوى الشعب العراقي، فقد كان مأمولا أن يكبر القادة العراقيون فوق خلافاتهم المذهبية، وأن يسموا فوق نزوعاتهم الطائفية، والعشائرية، والسياسية ، وأن يضربوا المثل الاعلى في التضحية بالهم الذاتي والشخصي، وأن يكون الهم العراقي القومي هو دافعهم ومحركهم. ولكن العالم شاهد بدلا من ذلك، تصفيات جسدية بالجملة كان دافعها ومحركها الحقد العشائري والطائفي والديني، الامر الذي جعل الحديث عن الديمقراطية التي كان يبشر بها الاميركيون في العراق، مدعاة للسخرية والتندر. وكانت النتيجة النهائية التي اوصلنا لها القادة العراقيون هي فشلهم في تخطي امتحان التحول من حال العراق القديمة التي طالما انتبذوها الى حال جديدة طالما تمنوها. ولكن الذي حدث كان مخيبا للامال. ان العلامات البارزة في موقف المشرعين العراقيين والتي يجب ان تجد التقدير والمساندة من كل افراد الشعب العراقي هي رفضهم لاي بند في الاتفاق الامني يُشتم منه نية اميركية لتمديد الاتفاق في المستقبل. وكذلك رفض اي بند غامض تُشتم منه امكانية القيام بعمل عسكري ضد جيران العراق مثل سوريا او ايران. يذكر ان رئيس الوزراء العراقي كان قد عبر في العديد من الحالات عن اراء لم تعجب الادارة الاميركية وكان يشتم منها انتقاد هذه الادارة بصورة ضمنية ولكنه كان يتراجع في كل مرة عن تلك الآراء بضغط من الادارة الاميركية. ويذكر في هذا الخصوص تحديدا تأييده لفكرة المرشح الديمقراطي السناتور باراك اوباما الداعية الى ارجاع القوات الاميركية من العراق في ظرف ستة عشر شهرا من توليه الرئاسة. ولكنه عاد وتراجع عن ذلك القول عندما وجد نفسه وقد خاض في لب المعركة الانتخابية الاميركية الحامية، ودلف من حيث يدري او لا يدري الى رصيف الحزب الديمقراطي. ان الامل معقود هذه المرة ان يكون للحكومة العراقية برئاسة السيد المالكي موقف ثابت وقوي من مسألة تحديد زمن نهاية سريان الاحتلال الاميركي للعراق. ان الاتفاق الامني الحالي لا يعطي هذا التحديد الزمني مع الاسف الشديد. عن صحيفة الوطن القطرية 28/10/2008