أثار القرار الاخير لحكومة سلام فياض المعينة من الرئيس محمود عباس بفصل ثلاثماية معلم من المؤيدين او المحسوبين على حركة حماس من سلك التربية والتعليم ووزارة الاوقاف في الضفة الغربية بتوصية من الاجهزة الامنية التي تسيطر عليها حركة فتح،أثار جدلا كبيرا في الشارع الفلسطيني ، بالرغم مع انه لم يكن القرار الاول ولكنه حوى الكم الاكبر من الموظفين دفعة واحدة وفي الضفة الغربية تحديدا.
قبل هذا القرار بيومين اعلن رئيس اتحاد المعلمين في الضفة الغربية جميل شحادة( فتح) ، ورئيس نقابة الموظفين فيها ايضا ، أن حماس اقصت الف معلم من سلك التعليم في قطاع غزة، بما يوحي لبعض المحللين ان هذا الاعلان كان تمهيدا للقرار الذي صدر في اليوم الثاني بفصل المعلمين وائمة المساجد ، كما ان هذا القرار بالفصل الجماعي سبقه فصل وقطع رواتب الاف الموظفين في الضفة الغربية وفي قطاع غزة ، ولم يعقد زكارنة ولا شحادة اي مؤتمر صحفي بهذا الخصوص حتى اللحظة؟.
حتى نكون موضوعيين يجب ان نطرح كيفية تعامل حماس وفتح على حد سواء مع الموظفين العموميين من خلال تجربتهما في الحكم قبل الانقسام وبعده ، في الضفة وغزة على حد سواء. سنبدأ بحركة حماس، فحركة حماس آثرت عدم الدخول في مؤسسات السلطة ولم تشارك في الانتخابات ، وحظرت على عناصرها الدخول في الاجهزة الامنية الفلسطينية ، فيما سمحت لهم بالتقدم للتوظيف في الدوائر والوزارات الاخرى ،ولكن تبعا لنظام( السلامة الامنية) الذي اتبعته فتح في التوظيف شكل موظفو القطاع العام بغالبهم من حركة فتح باغلبية تفوق التسعين بالمئة .
عندما فازت حماس في الانتخابات ، اصبحت كمن يجلس على قمة هرم اداري كله من فتح ، هرم اداري من مئة واربعين الف موظف اغلبهم فتح ، واضيف اليهم بعد فوز حماس من حكومة قريع عشرين الف موظف جديد من العسكريين وكلهم من فتح، هذا الكم الهائل من الموظفين ، دفع حماس الى الاختيار اما بالفصل والاقصاء ، واما التعامل مع الامر الواقع وتفعيله.
اختارت حماس التعامل مع الخيار الثاني بحذر، لانها لم تكن ترغب بان تثير الموظفين عليها ، وارادت ان تعمل على كسبهم لطرفها ، وسعت جاهدة لنقل الاموال لهم من كل الدنيا عبر ما عرف حينها( بحقائب الاموال ) ، لم تجد هذه السياسة نفعا ، فقد كان القرار السياسي بان تتم مناكفة حماس في كل الميادين ، وبدأ الاضراب المفتوح في ظل الحصار المالي والسياسي الخانق على حكومة هنية (الحكومة الفلسطينية التاسعة)، حينها لم يكن لحماس اي خيار سوى بتعيين بضعة الالاف من الموظفين الجدد لتسيير اعمال الوزارات وانشاء ما عرف حينها بالقوة التنفيذية لتسد مكان الاجهزة الامنية التي اعتبرت ان لا ولاية لوزير الداخلية سعيد صيام عليها ورفضت تنفيذ اوامره، واعتبرت ان تعليماتها تأتيها فقط من الرئيس.
بعد انتهاء الاضراب اعلن الوزراء للموظفين ان ايا منهم لن يفقد مكانه وأن الموظفين الجدد الذين عينوا خلال الاضراب سيصار الى وضعهم في شواغر في الوزارات. بعد احداث الانقسام في غزة والضفة جلس اغلب الموظفين في القطاع في بيوتهم وتعهد الرئيس وحكومته بدفع رواتبهم، وكان امام حماس اما ان تترك الامور للفوضى او تسعى لاعادة ترتيب امور الوزارات الخدمية بتوظيف موظفين جدد، وكان لها ان وظفت الالاف من الموظفين عسكريين ومدنيين، وتعهدت بدفع رواتب الموظفين الذين تقطع رواتبهم من حكومة سلام فياض في رام الله.
اتهم بعض المحللين حماس ان سياستها في التوظيف ( خضراء فاقعه) اي توظف فقط المحسوبين عليها، وقالوا انها تشبه فتح في ذلك، فيما دافعت حماس عن نفسها قائلة( انه في ظل الصراع بينها وبين فتح فان الناس العاديين يحجمون عن اقحام انفسهم والوقوف مع حماس خوفا من دفع الثمن ولذلك فالوحيدين الذين يعملون ويتوظفون في ظل الصراع هم عناصر حماس الذين يدفعهم التوجه الديني والسياسي للعمل حتى ولو بدون راتب) .
اما فيما يخص اعلان زكارنة وشحادة الاخير حول اقصاء الف معلم من سلك التعليم ، فاعلنت حماس ان هؤلاء اضربوا عن العمل بتعليمات من شحادة وزكارنة ، وانها(حماس) لن تترك مصير الطلبة ومستقبلهم بيد المضربين بدوافع سياسية لا مطلبية ، يمددون الاضراب كل اسبوع لاسبوع آخر، ولذلك قامت حماس بتوظيف معلمين جدد مكانهم ، كما ان هؤلاء المعلمين استفادوا عمليا من اقصائهم او اضرابهم ، لأنهم سينضمون الى عشرات الاف الموظفين في القطاع الذين يقبضون الراتب ولا يعملون، ولذلك فهم عمليا لم يتضرروا من قرار حماس توظيف معلمين مكانهم خلال اضرابهم.
أما المضربين في القطاع الصحي فقد اعتبرت حماس أن من لا يعالج المريض كمن يقتله ، ولذلك سعت للضغط عليهم من خلال اغلاق عيادات الاطباء المضربين حتى يعودوا للعمل. اما سياسة حركة فتح تجاه الموظفين، فهي اولا تجربة اوسع من ناحية الكم في التوظيف ، ومن ناحية المدة الزمنية من تجربة حماس، اضافة الى تمتعها باريحية مالية ودعم سياسي اقليمي ودولي.
اعتبرت حركة فتح ان السلطة هي( كعكتها) وحدها وانه لا حق لاحد باقتسامها معها ، لانها هي من انشأتها وبالتالي هي التي ستتحمل اوزارها ، ولذلك هي اولى بقطف منافعها المادية، ولذلك سعت فتح الى توظيف عناصرها ومؤيديها في السلطة حتى تضخم جيش الموظفين لدرجة ان الكثير من الموظفين لم يكن يعمل ، واصبح الناس يتندرون على حال السلطة باننا بلد المليون مدير والمليون عقيد!.
تركزت رغبات ابناء فتح على التوظف في المؤسسة الامنية وعلى الوزارات في الوظائف الادارية ، وعزفوا عن التوظف في وظيفة معلم مدرسة وفراش اضافة الى امامة واذنة المساجد لاسباب موضوعية، لذلك كانت وزارتا التعليم في شقها التعليمي ووزارة الاوقاف في شقها العملي ايضا ملاذ من ليس له علاقة بفتح، والملفت للنظر ايضا ان هاتين الوزارتين هما الاقل اهتماما من قبل السلطة منذ نشأتها وحتى اليوم!، فمثلا ممكن ان يتوظف الامام او المدرس لمدد طويلة ولا يقبض راتبا ، وبالنسبة لامامة المساجد لا يوجد توظيف بشكل عام وتقوم الامامة على التطوع من الناس ،فيما اي موظف في الوزارات او الاجهزة الامنية يتفرغ للعمل يأتيه الراتب بسرعه ، وامكانية التوظيف سهلة.
سياسة فتح في التوظيف زادت العبىء المالي على السلطة لان هذا الجيش من الموظفين يستهلك امكانيات السلطة المالية والتي هي شحيحة اصلا ، وتعتمد على المساعدات الخارجية، وظهر هذا المأزق بشكل واضح اثناء الحصار على الحكومتين التاسعة والعاشرة.
بعد احداث غزة والضفة التي انتهت بالانقسام الحالي ، اتبعت فتح ( بحكومة فياض المعينة واجهزتها الامنية) سياسة مع عملية التوظيف وصفت بالانتقامية والاستئصالية وفي نفس الوقت امتداد لسياسة فتح القديمة منذ نشأة السلطة ( السلامة الامنية)،وتركزت سياستها على عدة محاور:-
* فعلت ما كان يعرف بقانون السلامة الامنية ، والذي يستثني كل عضو في حماس او مناصر او قريب او له اي علاقة من بعيد او قريب بحماس(هذا السياسة الغتها حماس حين شكلت الحكومتين التاسعة والعاشرة).
* اتبعت سياسة ما يعرف بقطع الرواتب في قطاع غزة والتي طالت كل من له علاقة بحماس ، اضافة الى بعض الذين طالتهم تقارير كيدية من المخبرين .
* قامت فتح بطرد كل الموظفين في الضفة الذين وظفتهم حماس اثناء تواجدها في الحكومتين التاسعة والعاشرة ، والغت كل الترقيات للموظفين اثناء تلك الفترة ، بل همشت عددا منهم وجعلتهم بلا عمل في الوزارات ، بل واجبرت بعضهم على الاستقالة من منصبه، ونقلت بعضهم من مكان الى آخر.
* قطعت رواتب معلمين وموظفين في الاوقاف وغيرهم في الضفة وغزة، تحت شعار انهم(ليسوا مع الشرعية) اي (ليسوا مع موقف فتح من الصراع).
* قطعت رواتب نواب في المجلس التشريعي من حركة حماس، وبرر سلام فياض ذلك بأنه( لا يمكن توجيه اموال الدعم الاوروبي للارهابيين) طبعا هنا يقصد زملاؤه نواب المجلس التشريعي من حماس ، والذين فازوا بالاغلبية ، ولم تحز كتلته الا على مقعدين؟!.
قامت بعملية واسعة لفصل كل منتم او مؤيد لحماس في الاجهزة الامنية واخضعت القادمين الجدد لفحص مشدد حول الخلفيات والاعتقادات السياسية.
* توجت هذه السياسة اخيرا بهذا الكم الكبير من فصل الموظفين في الضفة الغربية. يتساءل بعض المحللين عن سر تصعيد هذه السياسة حاليا في ظل اجواء الحوار والتفاؤل الحذر من قبل بعض المراقبين بامكانية نجاحه ،كان لهذا التصعيد عدة اسباب حسب رأي العديد من المحللين والمراقبين للشأن السياسي الفلسطيني.
رأى بعض المحللين أن حكومة فياض التي نشأت بقرار من الرئيس بعد الانقسام بما تحويه ممن سماهم مسؤول التعبئة والتنظيم في حركة فتح احمد قريع ، سماهم (وزراء الصدفة) ، هذه الحكومة التي ليس لها اي رصيد في الشارع ستذهب اذا اتفقت حماس وفتح ، ولذلك ليس من مصلحتها اطلاقا التوافق الداخلي ، وان افضل طريقة لعرقلة الحوار هي بالتصعيد ضد حماس في الضفة الغربية بشكل كبير .
ويرى آخرون ان هذا التصعيد يأتي من رؤساء الاجهزة الامنية الذين يرغبون بمواصلة استهداف حماس انتقاما لهزيمتهم في غزة ، ورغبة منهم في مواصلة استهداف حماس حتى النهاية بدون النظر الى اي اعتبارات اخرى ،كما نقل عن ناحوم بارنيع(صحفي اسرائيلي) على لسان احد ضباط الاجهزة الامنية في اجتماع للتنسيق الامني في بيت ايل، ويتم هذا بدعم من تيار في فتح ، لا يريد اي توافق مع حماس .
ويعتبر هؤلاء المحللون ان هذه السياسات ما هي الا فجور في الخصومة مع حماس وفقدان للبوصلة الوطنية ورغبة مستديمة في استهدافها ورفض الصلح معها، واخلاص للعقيدة الامنية التي اسست على اساسها هذه الاجهزة.
يرى آخرون ان فتح لا تريد حوارا مع حماس وان حماس فاجأتهم والمصريين بمواقفها البراجماتية في اللقاآت الاخيرة ، واحسوا انهم وقعوا في مأزق ولذلك سعوا الى التصعيد ضد حماس على عدة محاور كان من ضمنها عمليات الفصل الاخيرة بالمئات ، والعمل السريع في محافظة الخليل لاستئصال حركة حماس حتى يعطلوا الحوار.
يرى آخرون ان لهذا التصعيد علاقة باستحقاق انتهاء ولاية الرئيس الفلسطيني بعد اشهر قليلة ، وان هناك توجها لاستهداف حماس بشراسة خوفا من تحريكها للشارع الفلسطيني ضد تمديد عباس لنفسه ، وهذا ما نقله الصحفي الاسرائيلي ناحوم بارنيع عن حسين الشيخ احد قادة فتح في الضفة الغربية ،في لقاء التنسيق الامني في بيت ايل. يرى آخرون ان هذا الاستهداف ما هو الا تهيئة للانتخابات القادمة ، حتى تكون حماس في وضع المنشغل بترميم وضعه الداخلي بعيدا عن الاستعداد للانتخابات.
ويرى آخرون ان الراتب هو السبب؟! فيعتبرون ان هاجس قطع الرواتب ووقف الدعم المالي للسلطة اذا توافقت فتح وحماس ، هو الدافع لهذه الشراسه التي تزداد تصاعدا كلما اقترب موعد الحوار ، ولذلك يعتقد من ينفذون هذه السياسة ان موعد التوافق والحوار هو موعدهم مع الجوع ، ولذلك يفعلون كل شيء من اجل منع التقارب .
ويرى هؤلاء المحللين ان هذا الحوار لن يوصل الى اي نتيجة مع هاجس وقف الرواتب الذي يسيطرعلى من ينفذون هذه السياسات.
يعتبر آخرون ان لهذا التصعيد علاقة بالحوار المزمع في القاهرة من باب الضغط على حماس ، لأن العديد من أوراق الضغط عليها فشلت ، ولم يبق الا ورقة الاقصاء الوظيفي والاعتقالات ، وأن هذا التصعيد ما هو الا رغبة في تثبيت حقائق على الارض والابتزاز السياسي لحماس ، وأخيرا( صلية الوداع) من حكومة فياض والاجهزة الامنية لحماس على ابواب الحوار.
تعتبر دوافع هذه السياسة الاقصائية متعددة ولا يمكن حصرها في سبب معين، كما أن اي متابع يلحظ أن هذه سياسة قديمة جديدة ولم تكن وليدة الانقسام . اما فيما يخص المقارنة بين نموذجين من التعامل فبامكان القارىء الكريم أن يجري المقارنة بنفسه ويصل الى النتيجة. ** فلسطين