هاني أبوالقاسم عندما يجلس الإنسان مع ذاته ليشاهد ماذا حدث خلال فترة عمره الماضية ويتأمل ما بها من أحداث ومواقف يرى إنه قد مر بحالات متغيرة في حياته قلبتها رأساً على عقب، وفي تلك اللحظة، فإن الفرد يفقد القدرة على التواصل مع الأخرين .
كما يفقد القدرة على التمتع بما حوله وإصلاح وضعه ربما لأنه بشعر أنه يدور في حلقه مفرغة.
وكثيراً ما تُثقل النفس البشرية بالهموم والمشاغل والمشاكل إلى درجة تجعل من الإنسان آلة تم حشوها بكل ما يخطر على البال..
فيصبح كجهاز الحاسوب، الذي قد يأتي عليه وقت فيكون مُثقلا بالمعلومات والأوامر والبرامج والمشاكل مما يجعله عاجزاً عن تنفيذ أي أوامر اخري تأتيه من صاحبه . فيعطي إشارة للمستخدم بكلمة توقف Stop.
بمعنى أن يقول له : " قف أنا بحاجة إلى صيانة ".
إذاً ... أفلا يحق للإنسان أن يتوقف لعمل صيانة لنفسه حاله حال جهاز الحاسوب..؟
هل شعرت يوماً بأنك في أمس الحاجة إلى صيانة وإعادة تأهيل ذاتك ..
أو عمل Format او Update لنفسك
متى و كيف في رأيك تكون هذه العملية مفيده لك ..؟
وهل هي عملية بناء ام هدم ..؟
من هم أكثر الناس حاجة لهذه الصيانة ؟؟
لو كنت ستستعين بمساعد ، فمن ستختار ..؟؟؟.. الآن .. انظر إلى نفسك جيداً ... فإذا وجدت بأنها تحتاج إلى وقفة للصيانة فامنحها ذلك .. لربما تعود بحال أفضل مما كنت عليه في السابق.
فالنفس البشرية كالسيارة تحتاج لصيانة دورية، وكلنا معرضون للإصابة بالضغط النفسي في أي مرحلة من مراحل حياتنا؛ ولذا فإن السؤال الذي يرد إلى الذهن مباشرة هو: ألا يوجد من سبيل لنقي أنفسنا من تلك الضغوط؟
وحتى تتضح الصورة وتقترب من الأذهان فإنني أشبه الأمر بالمرض العضوي، فالإنسان يصاب بالمرض عندما تضعف مناعته؛ ولذا فإن الإنسان يحتاج لغذاء متوازن صحيا، مع التعرض لأشعة الشمس وممارسة الرياضة بشكل منتظم، حتى يعمل جهازه المناعي بكفاءة تمنع إصابته بالأمراض.
فإذا ما أهمل الإنسان غذاءه أو لم يحصل على ما يكفيه من الراحة فإنه سرعان ما يصيبه المرض، ونجد أن الشخص نفسه يقول: إنني أهملت نفسي في الفترة الماضية فضعفت مناعتي فأصابني المرض.
هكذا تسير الأمور أيضا في الإصابة بالضغوط النفسية، فالإنسان لديه جهاز مناعة نفسي إذا ما ضعف أو اختل أصيب الإنسان بالمرض النفسي.
وجهاز المناعة النفسي يقوى بما أسميه الدخول في محطات البنزين النفسية من أجل تنشيطه، وهذه المحطات تتمثل في: الصحبة، والفسحة، والهواية.
فلا بد من أن يكون للإنسان أصحاب وأصدقاء يستريح إليهم ويسعد بهم وينسى كل الدنيا معهم، يخلي رأسه من كل الهموم والأفكار وهو معهم، فهم يمدونه بالطاقة التي يحتاجها.
وهو يشعر بالأمان بجوارهم ويبثهم كل ما يؤلمه، ويشاركهم في كل لحظات سعادته، ويطمئن لوجودهم في الدنيا، حتى لو تباعدت بينهم المسافات في بعض الأوقات.
والمحطة الثانية هي الفسحة، بمعنى إجادة فن الراحة والقدرة على الاستمتاع بالحياة، وهو الأمر الذي لا نجيده في مجتمعنا العربي، حيث نعتبر الاستمتاع بيوم الإجازة نوعا من الرفاهية الزائدة.
فلا تكون الإجازة إلا فرصة للنوم والخمول والاستيقاظ المتأخر، ونرفض أن نتوجه للنزهة أو نخرج حيث الهواء الطلق والخضرة والمياه والانطلاق، ولا ندرك أن الاستمتاع بيوم الإجازة يشحن بطارياتنا النفسية حتى تستطيع أن تمدنا بالطاقة طوال أيام الأسبوع.
إننا نبدأ أسبوع العمل وقد نفدت طاقتنا النفسية؛ لأننا لم نعمل على شحن البطارية خلال الإجازة بفسحة ممتعة في البر أو البحر، نحن لا نطلب ترتيبات صعبة أو مصاريف كثيرة.
إنه مجرد الخروج إلى مكان فسيح ممتد أمام البحر أو في مكان ممتلئ بالورود والخضرة نضحك ونلعب وننطلق بدون أي قيود، وبدون تليفونات محمولة تحمل أي أحداث أو أخبار.. هكذا ببساطة.
ولتكن المحطة الثالثة هي الهواية، وهي ما يحبه الإنسان ويسعد عندما يقوم به؛ لذا، فلا بد من أن يخلي الإنسان بين نفسه وبين ما يحب.
فمما بقي لنا من الحكمة مما ورد في صحف إبراهيم وموسى القول المأثور: "الكيس هو من كانت له ثلاث ساعات: ساعة يقبل فيها على ربه، وساعة يصلح فيها شأنه، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين ما يحب".
ويقول العلماء: إن الساعة الثالثة هي الأهم والأخطر؛ لأنها التي تساعد الإنسان على الساعتين الأخريين. فهي الساعة التي تعين الإنسان على الإقبال على ربه وتعينه على الإتقان في عمله بما يصلح شأنه.
لذا، كان لابد لكل إنسان من شيء يحبه يترك كل الدنيا من أجل أن يقوم به، وكان الشعار: ساعة في اليوم، ويوم في الأسبوع، وأسبوع في الموسم، هو الشعار الجامع لكل ما نقول.
فساعة في اليوم مع الأصدقاء أو مع الهواية، ويوم في الأسبوع هو يوم الراحة والإجازة نخرج فيه ونتقن ممارسة فن الراحة خلاله.
وأسبوع كل ستة شهور في نصف العام أوفي الإجازة نتخفف فيه من كل الأحمال والأثقال، إنها إعادة الشحن.. إعادة التأهيل النفسي.
هي أيضا عملية تعَهُّد النفس حتى تصبح قادرة على الاستمرار الصحي في مواجهة الضغوط، سواء أكانت يومية أم موسمية؛ لأنك إن لم تفعل فستحصل النفس على راحتها قسرا ولكن بصورة مرضية.
وهنا أستعير التشبيه من عمال صيانة السيارات، حيث يقولون: لا تترك السيارة حتى يفرغ البنزين منها تماما، فهذا يجعل الشوائب تمر فتسد منافذ السيارة فتتعطل وتتوقف، لا بد من أن تمدها بالبنزين أولا بأول.
إذا لم تشحن نفسك بطاقة نفسية.. إذا لم ترحها.. إذا لم تمتعها.. إذا لم تخل بينها وبين ما تحب، فستتعطل.. فستتوقف.. فستحصل على الراحة قسرا.. فستجبرك على المكوث في البيت لتخسر الساعات التي تصورت أنك توفرها عندما لا تذهب للفسحة أو للقاء الأصدقاء أو لممارسة الهواية.
ولكن ستخسرها وأنت مريض تعاني الاكتئاب أو الخوف أو الوسواس أو.... وتحتاج لوقت من العلاج النفسي حتى تعود نفسك لاستوائها واستقرارها. يوفر عليك كل ذلك أن تجدد حياتك ساعة في اليوم.. ويوم في الأسبوع.. وأسبوع في الموسم.
ومن المعروف أن النفس البشرية عالم رحب وواسع يتسع لما لا يتسع له غيره من مكونات المخلوق البشرى، ولهذا السبب خص الله النفس بآيات كثيرة فلا تكاد تخلو آية أو حديث من النفس .
ولما كانت هذه المفردة تأخذ أبعاداً متنوعة ومختلفة فقد تحدث القرآن عنها وعن مدلولاتها ، وخصها بالتفصيل و الإسهاب لما لها من قوة و مكانة في الإنسان حيث ورد ذكر لفظ النفس وما يشتق منها فى " 313 موضعاً " واتخذت معاني كلية وجزئية .
قال الله تعالى : ( وفى أنفسكم أفلا تبصرون ) فى هذه الآية يحثنا الله سبحانه وتعالى على التفكير والتدبر في أنفسنا لأن فيها لنا العبر الكثيرة حيث تبين لنا هذه الآية عظمة خالقنا وقدرته الباهرة مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات و الحيوان والمهاد والجبال و الأنهار والبحار .
واختلاف ألسنة الناس و ألوانهم وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى ، وما بينهم من التفاوت في العقول المفهوم والحركات والسعادة والشقاوة وما فى تركيبهم من الحكم فى وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه .
فالإنسان الناجح هو من يعرف ايجابيات نفسه ويدعمها ويحاول الابتعاد عن سلبياتها وكل إنسان يولد على الفطرة أي أنه خيّر ولكن المحيط الذي يعيش فيه هو المسئول عن تشكيل شخصيته .
ولقد تناول القرآن الكريم أبعاد الشخصية السوية و الغير سوية، بل تناول مجموعة من العوامل المكونة لكل من السواء وعدم السواء في الشخصية .
ويوضح لنا القرآن الكريم أن الصحة النفسية تتجلى من خلال عاطفة الحب المتدفق من الإنسان نحو خالقه لأن الله هو صاحب الحياة وصاحب الفضل في هذه النعم التي ينعم بها الإنسان .
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ينظر إلى نفس الإنسان على أنها مستودع قوى والمؤمن الذي يطيع ربه يكون ربانياً ، فالله هو الذي يقول للشيء كن فيكون .
وطاعة الله واجبة لقوله تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ويعني هذا أن على الإنسان اتباع أوامر الله و اجتناب نواهيه حتى ينال رضا الله وييسر له أموره .
ولقد وجد الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم الشيء نفسه في القرآن الكريم مما أعانهم على فهم أنفسهم والسيطرة عليها .
والدليل على ذلك هو فهم الصحابة والرسول صلوات الله عليه أن الله لا يطلب من العبد الشكر على المعروف لقوله تعالى : (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً ) .
ولما كان من أصعب أنواع الجهاد جهاد النفس فهذا يدل على مدى أهمية النفس في الإسلام،و العاقل يعلم أن حياته الصحيحة هي التوبة والرجوع إلى الله سبحانه ومحبته واغتنام الفرص للعبادة .
وهذا من أهم أساليب العلاج النفسي وقد سئل النبي عن أفضل الناس فقال " كل مخموم القلب صدوق اللسان فقالوا له صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب . فقال هو التقى النقي لا إثم فيه ولا بغى ولا غل ولا حسد " .
ولقوله صلى الله عليه وسلم " اغتنم خمساً قبل خمس ، حياتك قبل موتك وصحتك قبل سقمك وشبابك قبل هرمك و فراغك قبل شغلك وغناك قبل فقرك " وعلم النفس يهتم بمراحل النمو وهنا حدثنا الرسول الكريم عن اغتنام مرحلة الشباب قبل الهرم فيما يفيدنا ويفيد ديننا .
قال تعالى : ( ومن لم يجعل الله له نوراً فماله من نور ) إن في الهدى النبوي البلسم الشافي للقلوب الظامئة إلى الحق والنفوس الطالبة لليقين والعقول الراشدة أو الرشيدة التي تنمو في الصدق و الإخلاص فى العلم والعمل .
والنفس في الهدى النبوي إذا صلحت انصلح أمر الجسم وإذا فسدت فسد أمر الجسم فعلاجها أولى وأهم من علاج البدن .
فالمقصود من هذا أن كثيراً من الأمراض العضوية يكون سببها المباشر أو غير المباشر نفسي أي نتيجة اضطراب الحالة النفسية .