عندما تتكلم المادة ينصت الجميع وتتهاوى الأخلاق وتسقط القيم في براثن البحث عن المال ومحاولة جمعه بشتى الطرق والوسائل سواء المشروعة أو غير المشروعة، وهنا سيقول كل من يقرأ هذا المقال أن الكاتب مجنون فهل تتكلم الفلوس؟.
وهنا أقول له نعم تتكلم بسلطانها ونفوذها وسيطرتها على البشر ضعاف النفوس، ولكن عفواً فهناك بعض الشخصيات التي لا يغريها المال ولا تلهث ورائه ولا تبيع أفكارها ومبادئها ولو بكنوز العالم ولكنها قلة قلية.
ولكن هنا ينتابني شهور بالأسى والحزن على انحدار المبادئ والقيم لدى معظم الناس، فأصبح من عنده المال يسعى للمزيد حتى لو حقق هذا على حساب رقاب الضعفاء فشهوة المال أصبحت تتحكم فيه.
ولا يعبأ في سبيل تحقيقها بأن يفعل أي شيء دون وازع من ضمير، فلم تعد المادة وسيلة لتحقيق السعادة والمتعة والرضا ولكنها أصبحت غاية في حد ذاتها.
فعلاقة الإنسان بالمال علاقة وثيقة منذ أن وجد على هذه الأرض، وذلك لأن المال يمثل عصب الحياة ومصدر معين على الوفاء باحتياجات ومتطلبات الأفراد والمجتمعات.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه العلاقة بين الإنسان والمال في قوله "ويحبون المال حبا جما"، كما أشار إلى قيمته المعنوية كما ورد في الآية الكريمة "المال والبنون زينة الحياة الدنيا".
ومع إدراك حقيقة هذه العلاقة لابد من التأكيد أن قيمة المال مهما علت لا يمكن أن تجعل منه أو من جمعه هدفا، بل هو وسيلة تحقق من خلالها بعض الغايات والأهداف الأخرى. ويأتي الحث على جمعه والسعي في ذلك لتحقيق الأهداف والغايات التي من أجلها خلق الإنسان.
قال الشيخ عبد الحميد كشك رحمه الله :
" رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده مال ومن ليس عنده مال فإن الناس عنه قد مالوا رأيت الناس قد ذهبوا إلى من عنده ذهب ومن ليس عنده ذهب فعنه الناس قد ذهبوا رأيت الناس قد انفضوا إلى من عنده فضة ومن ليس عنده فضة فعنه الناس قد انفضوا
وهناك مقولة تقول يجعلك ذكاؤك ثريا، لكن المال قد يحولك إلى أحمق، والمهووس بالمال لا يملك المال وإنما هو عبد له
إذا كانت للمال آثار تتضح على الفرد في ملبسه ومشربه ومسكنه ومركبه، فإن له آثارا على المجتمع في نموه وتطوره وتوافر الخدمات فيه والبنية التحتية من طرق وكهرباء وماء واتصالات ومدارس ومستشفيات وغيرها، وبمقارنة بسيطة نجد أن الدول الشحيحة في مواردها تفتقد الكثير من الاحتياجات الحياتية.
فليس هناك فقير وغني في الإنسان فقط ولكنها على مستوى الدول أيضاً ولا أغالي عندما أقول إنها على مستوى الحيوانات أيضاً فهناك مثلا قطة تتربى في بيئة راقية وهناك قطط الشوارع التي لا تجد ما يسد جوعها وتبحث عنه في أكوام القمامة.
إن معادلة جمع المال والحصول عليه وإنفاقه معادلة دقيقة تتطلب اتزانا ومراعاة كثير من الأمور، إذ لا مكان للمال الحرام سواء كان مالا مسروقا أو مال رشوة وغيرها.
كما أنه لا مسوغ من جمع المال وتكديسه وعدم إنفاقه واستخدامه استخداما مناسبا في الإنفاق على الذات "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما"، وإذا كان جمع المال ليس هدفا بحد ذاته كما سبق الإشارة.
لذا جاء التأكيد أن جمعه دون الاستفادة منه قد يتحول إلى وبال "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم"، ونظرا لأن المال ما وجد إلا لمصلحة الأفراد والمجتمعات بغرض إنفاقه الإنفاق المناسب والملائم دون تقتير أو إسراف وتبذير.
لذا جاء الحث على هذا التوازن "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" وقوله "يا أيها الذين آمنوا خذوا زينتكم عند كل مسجد".
وإذا كانت للمال آثار تتضح على الفرد في ملبسه ومشربه ومسكنه ومركبه، فإن له آثارا على المجتمع في نموه وتطوره وتوافر الخدمات فيه والبنية التحتية من طرق وكهرباء وماء واتصالات ومدارس ومستشفيات وغيرها.
وبمقارنة بسيطة نجد أن الدول الشحيحة في مواردها تفتقد الكثير من الاحتياجات الحياتية، وذلك بسبب عدم توافر المال الكافي لإيجاد هذه الخدمات، كما توجد أيضا دول أخرى ذات موارد ضخمة ولكنها في الوقت ذاته متراجعة في شأن الخدمات والبنية التحتية.
وهذا في غالب الأحيان يعود إلى سوء الإدارة، مما يترتب عليه إنفاق للمال في غير مواضعه الصحيحة، وهذا الوضع ينطبق على الأفراد، فكم من فرد ملك مالا وفيرا لكنه فقده في لحظة عين بسبب الإسراف والبذخ ولم ينعكس أثر المال على حياة الفرد بالشكل الطبيعي والمعقول.
وقد يشكل المال نقطة تحول في حياة الناس، إذ قد ينقلهم من وضع سيئ إلى وضع أفضل في تعليمهم وفي الخدمات الصحية التي يحصلون عليها، وفي شؤون حياتهم كافة.
ولو تمعنا في آثار المال في العلاقة بين الأفراد وبين الأمم لتبين أنه قد يكون سببا في علاقة حميمة وقوية، خاصة إذا استخدم في أهم وجوه الإنفاق الحسن، الإنفاق في سبيل الله.
كما أن للمال أثرا واضحا في تقوية العلاقات الاجتماعية وزيادة الصلة بين الناس إذا نحن أحسنا استخدامه وتوظيفه، إذ إن الإنفاق على الآخرين والصدقات والهدايا يزيد من التواصل والمحبة "تهادوا تحابوا".
كما يمكن أن يكون سببا في الفرقة والشحناء والنزاعات إذا نحن جعلنا من المال هدفا في الحياة، وكم من القصص التي يتداولها الناس فيما بينهم في هذا الشأن.
أما آثاره في العلاقات بين الأمم والمجتمعات فيكفي ما نقرأه ونشاهده من حروب طاحنة نتجت بفعل الهوس الذي يسببه المال لدول كي تغزو وتحارب دولا أخرى، وما الاستعمار إلا صورة معبرة وبشكل واضح جلي لإغراء المال والثروات، فلا ننسى تجربة حرب العراق وما نتج عنها حتى الآن للاستيلاء على ثروة البترول والتحكم فيها.
مما يترتب عليه إغناء لمجتمع وإفقار لمجتمع آخر، حيث تسرق ثرواته وتنهب بفعل القوة والجبروت الذي لا حدود له. أما إغراؤه للأفراد فيكفي أن نعلم حجم الجرائم التي يرتكبها بعض الأفراد كالسرقة والسطو والاتجار بالمحرمات، بفعل إغراء المال.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى حديث الفقراء مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين جاءوا إليه يشكون من أن أهل الأموال يصلون كما يصلون ويصومون كما يصومون.
لكن الأغنياء يتصدقون والفقراء لا يتصدقون، وفي هذا ميزة إضافية يتمتع بها الأغنياء على الفقراء، مما يعطيهم فرصا أكثر للأجر والمثوبة.
وقد ورد في أكثر من حديث وآية أهمية المال وقيمته على الصعيد الفردي والاجتماعي "اليد العليا خير من اليد السفلى"، فالغني الذي يبذل في سبيل الخير وينفق على الفقراء ويقيم المشاريع الخيرية يطول فضله شرائح كثيرة من أبناء المجتمع وينتفعون بماله.
فالطالب يدرس في المدرسة التي أقامها المحسن، والمريض يتعالج في المستشفى، والجائع يشبع، والعريان يكتسي، والمشرد يجد ملاذا يلجأ إليه ومسكنا يفد إليه.
ووجوه الإنفاق الحسن كثيرة، بدءا من الإنفاق على النفس والولد وأعمال البر والخير، والتي لا حدود لها كبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وعلاج المرضى وبناء الدور للفقراء والمساكين وتزويج الفقراء وغيرها.
إلا أن أفضل أوجه الإنفاق ما كان على النفس والأهل "ولا تغلل يدك إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا"، "إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا"، وبعد الإنفاق على النفس والأهل يكون الإنفاق على الفقراء والمساكين زكاة وصدقة "ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".
"وفي كل كبد رطبة صدقة"، "دخلت امرأة النار في هرة فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض". وهذا تأكيد أن الحيوان داخل ضمن مجموعة من ينفق عليهم الإنسان ويبرهم في عطفه ومساعدته.
فهل يا ترى نحاسب أنفسنا أفرادا ومجتمعات في تعاملنا مع المال ونعرف من أين نحصل عليه وكيف ننفقه بغرض المحافظة على الثروات التي أنعم الله بها علينا موظفين في ذلك مبدأ الأولويات في الإنفاق.
ولأهمية المال وقيمته جاء النهي صريحا عن عدم إعطاء السفهاء الأموال والثروات حتى لا يسيئوا استخدامها "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم".
فكم من أسرة كان مصيرها الفقر بسبب سوء تصرف أفرادها بالمال الذي منحهم الله، وكم من مجتمع يعاني أبناؤه الفقر والبؤس بسبب سوء إدارة المال والثروات.
وأخيراً.. لابد أن نتذكر دائما مقولة أجمع المال لتعيش ولا تعش لتجمع المال، وماذا يفيدك لو كسبت العالم كله وخسرت نفسك.