على جانبي هذا الطريق الطويل، الطويل بلا نهاية أحياناً، في هذه البلاد الفسيحة الأرجاء، من بوابات الحدود الليبية مع مصر وصولاً إلى مدينة بنغازي، مقر الثورة الليبية وقيادتها، ليس ثمة من يؤيد العقيد ونظامه.
سائقو السيارات، العاملون في المقاهي والاستراحات، موظفو الفنادق، إضافة إلى شباب الثورة الواقفين على الحواجز الأمنية وأمام المؤسسات العامة وفي جبهة القتال.
كلهم مجمعون على أن لا موقع للعقيد وأولاده في ليبيا المستقبل: القذافي لن يحكم ليبيا من جديد، يقولون، هذه الحقبة السوداء من تاريخ ليبيا ستنتهي مهما كانت التكاليف. ليبيا، بالطبع، بلاد رجال، قلما ترى في شوارع مدنها نساء.
ولكنها أيضاً بلاد عربية إسلامية من رأسها إلى قدميها، من ساحلها المتوسطي المذهل إلى صحراء إجدابيا، بلاد شعب كريم، تستوقف أحدهم للسؤال عن الطريق، فيصر على دعوتك إلى منزله أولاً.
وهذه بلاد شعب شجاع، ما أن قرر الخروج لإطاحة نظام العقيد، حتى واجه أجهزته وكتائبه الأمنية بيد عارية، وقاتل قواته طوال أكثر من شهر على جبهات القتال بسلاح خفيف، تستغرب كيف استطاع به حماية الشرق الليبي كله.
والصمود في الزاوية طوال أسبوعين وفي الزنتان ومصراته لاسابيع طوال. هذا الشعب، الشعب الليبي وحده، سيمضي في ثورته حتى الانتصار الأخير، وهو وحده ضمانة حرية ليبيا واستقلالها.
منذ أيامها الأولى، بدا أن الثورة العربية في حلقتها الليبية ستكون مختلفة إلى حد كبير. كل حلقة في حركة الثورة العربية تتميز عن الأخرى، بهذا القدر أو ذاك، ولكن ما لا شك فيه أن الثورة الليبية تأخذ مساراً خاصاً بها إلى حد كبير.
عرف العرب نظام العقيد القذافي في صورته بالغة التقلب بين توجهات سياسية وإيديولوجية متفاوتة، وعرفوه مدعاة للسخرية والضحك أحياناً، وعرفوا تاريخ انخراطه في إرهاب أعمى، طال عرباً وغير عرب.
وعرفوا تناقضاته بين ادعاءات الثورة العالمية والخضوع لإرادة القوى الكبرى وبين مواجهة الدولة العبرية والاتصال بها. ما لم يكن معروفاً للرأي العام العربي.
أو ما لم يكن معروفاً على نطاق واسع، أن حكم العقيد قد أسس على نظام أمني - قمعي، لا يكاد يوجد له مثيل في العالم منذ انهيار نظام أنور خوجة في ألبانيا.
خلال أيام أربعة من انطلاق الثورة الشعبية في ليبيا، كان شبان مدينة بنغازي قد اقتحموا مقر كتيبة الفضيل بن عمر الأمنية، ووضعوا نهاية لحكم العقيد في المدينة، بعد سقوط زهاء المائتين من الشهداء. وبذلك أصبح بإمكان أهالي بنغازي أن يروا بأم أعينهم حقيقة هذا المقر الهائل لقوات أمن النظام في المدينة.
لا يتكون مقر كتيبة الفضيل من مجرد معسكر لإيواء عدة مئات من الجنود، بل هو أقرب إلى مدينة صغيرة، تتوزع على عدة بنايات ضخمة ووحدات سكنية، يبدو بعضها مخصصاً لمكاتب عمل أمني واستخباراتي، وبعضها الآخر للتحقيق، والثالث لإقامة الضباط والجنود، والرابع للتحقيق والتعذيب والاعتقال.
ولكن الواضح أن الموقع، إضافة إلى ذلك، كان المقر الحقيقي للحكم في بنغازي، وهذا ما يفسر وجود كبار رجالات النظام في المكان عند اندلاع الثورة، وما يفسر استهداف الثوار الاستشهادي له.
في النهاية، وبعد مواجهات مستميتة، غادر رجالات النظام المكان ومدينة بنغازي، وفر ضباط وجنود الكتيبة الأمنية بهذه الطريقة أو تلك، وأخذ شبان بنغازي في تفقد المقر وإخراج المعتقلين.
بعض من وجد في زنازين الاعتقال، وكلهم كانوا محتجزين عراة، اعتقل خلال الأيام الأولى للثورة، أو قبل اندلاعها بقليل على سبيل التحوط. أما البعض الآخر، فقضى سنوات طوال في المعتقل. وقد رووا جميعاً قصصاً يشيب لها الولدان حول وقائع اعتقالهم وتعذيبهم ومعاملتهم.
يوجد مثل هذا المقر في كل أنحاء ليبيا؛ ما يختلف هو اسم الكتيبة الأمنية المتمركزة في هذه المدينة أو تلك. وإلى جانب هذه المقار/ المنظمات الأمنية - العسكرية، توجد أجهزة أمنية أخرى.
تقوم بمهمات الأمن الاستخباراتي الداخلي، وهي أقرب ما تكون لجهاز مباحث أمن الدولة المصري سيىء السمعة والأجهزة المشابهة في سورية واليمن وغيرها.
وتمثل الكتائب الأمنية وأجهزة الأمن الداخلي ركيزة النظام الليبي الحقيقية، وعلى يد زبانيتها جرت عملية تدمير جيل بأكمله من الليبيين، بعضهم قتل أو اعتقل، وبعضهم غادر إلى المنافي البعيدة.
والبعض الآخر اعتزل الحياة العامة أو منع كلية من المشاركة في بناء بلاده. أبناء هذا الجيل من الليبيين، من هم في العشرينات والثلاثينات من أعمارهم، هو الذي أشعل الثورة ضد نظام العقيد، الثورة التي سرعان ما التحق بها مئات الألوف من الليبيين الذين لم يعد بإمكانهم احتمال الكابوس الذي جثم على صدورهم طوال اكثر من اربعة عقود.
في البداية، انطلقت الثورة في حركات تظاهر شعبية واسعة النطاق، من بنغازي إلى الزاوية، ومن طرابلس العاصمة إلى إجدابيا.و الحقيقة أنه لم تكد توجد مدينة واحدة، صغيرة أو كبيرة، إلا وشهدت تظاهرات حاشدة نادت بالتغيير وإسقاط نظام الحكم.
في بعض المناطق، كانت حركة التظاهر أشد من غيرها، وكانت عزيمة المتظاهرين أكثر تصميماً على مواجهة الكتائب والأجهزة الأمنية، أو كان الوجود الأمني أضعف نسبياً؛ وهو ما ساعد على التحرير السلمي السريع لكل الساحل الشرقي، من بنغازي إلى طبرق، إضافة إلى مدن مصراتة والزاوية وزنتان في الغرب.
ولكن النظام سرعان ما استعاد توازنه الأمني وأطلق حملته المسلحة واسعة النطاق ضد شعبه، مما دفع آلاف الشبان، وبدون تخطيط مسبق، إلى رفع السلاح. وبذلك، تحولت الثورة الشعبية الليبية إلى مواجهة مسلحة، طالت معظم أنحاء البلاد، سيما في الوسط والغرب.
بيد أن هذه حرب من نوع آخر. القول بأن ما تشهده ليبيا هو حرب أهلية، هو بالتأكيد قول غير صحيح. ثمة إجماع ليبي نادر على رفض النظام، يكفي للشهادة عليه الاعتناق الشعبي التلقائي للعلم الليبي القديم، علم الاستقلال، والتخلي المقابل عن رموز النظام.
ما حدث، أن القوات المسلحة في ليبيا قد انقسمت على نفسها، وليس الشعب من انقسم. ولا تدور الحرب في ليبيا بين طائفتين من الليبيين، أو بين مدينتين، أو مجموعتين عشائريتين، بل بين الشعب الليبي وثواره، وإلى جانبه قوات الجيش التي اختارت الوقوف مع الشعب، وبين كتائب وقوات موالية للنظام في الجانب الآخر.
والادعاء بأن ليبيا باتت منقسمة بين شرق وغرب، لأن الشرق تقليدياً يحمل بذور معارضة نظام العقيد، وأن الغرب موال للنظام، هو مجرد ادعاء لا يوجد ما يسوغه أو يؤسس له.
ففي أقصى الغرب الليبي، قاومت مدينة الزاوية قوات النظام طوال أسبوعين، قبل أن ينجح عنف النظام الفادح في إخضاع المدينة واستباحتها. ولكن الزنتان، المدينة الأخرى في الجنوب الغربي، لا تزال تقاوم بشجاعة فائقة.
وعلى الساحل الليبي، تقاوم مدينة مصراتة الباسلة، الغربية هي الأخرى، هجمات قوات النظام الأمنية منذ أكثر من شهر، بالرغم من الخسائر الفادحة في الأرواح والدمار الواسع الذي طال المدينة.
وبين قوات الجيش التي انضمت للثورة، تجد الضباط من أبناء المدن الشرقيةوالغربية، يقفون سوية للقتال ضد قوات النظام وكتائبه الأمنية.
ثمة موالون للنظام، بالطبع، ليس فقط في الكتائب الأمنية والأجهزة، ولكن أيضاً في ما تبقى مما يسمى باللجان الثورية، وربما بين العاملين في أجهزة الدولة والحكم الأخرى، إضافة إلى قطاع ملموس من المستفيدين.
مثل هذا الوضع لا يجب أن يدعوا إلى الاستغراب، سيما أن الأمر يتعلق بحاكم يمسك بمقاليد السلطة منذ أربعة عقود. ولكن هؤلاء لا يجعلون من الحرب الليبية حرباً أهلية، ولا من ليبيا بلداً منقسماً على ذاته.
كان يمكن للانتفاضة المسلحة، محاطة بالتفاف شعبي واسع، أن تطيح بحكم العقيد ونظامه. ولكن الكتائب الأمنية والقوى المسلحة التي تقود حرب النظام تتمتع بتدريب جيد، وتسليح فائق وإمدادات لا تبدو أنها محدودة بأي حال من الأحوال.
ولا يكاد يوجد شك في ولاء هؤلاء للعقيد ونظامه، سواء بفعل الخلفية القبلية لأغلبهم، وللامتيازات التي تمتعوا بها، أو لتورطهم في الكثير من جرائم النظام.
في مقابل هؤلاء، توجد قوى الثوار التي لم يعرف أغلب عناصرها السلاح إلا بعد اندلاع الثورة، وآلاف قليلة من ضباط وجنود الجيش الذين اختاروا جانب الشعب.
ولأن الجيش كان مهملاً إلى حد كبير، تدريباً وتسليحاً، فليس حتى بإمكان هؤلاء حسم المواجهة المسلحة لصالح الشعب وثورته.
ومن هنا جاءت حاجة الليبيين للتدخل الخارجي، العربي والدولي، لحماية أنفسهم من بطش النظام وقواته، وللمساعدة في تحرير المناطق والمدن غير المحررة.
بدون تدخل خارجي كان يمكن لقوات النظام أن توقع الهزيمة بالثورة والشعب، على الأقل في المدى القريب. وللكثير ممن رأوا ويرون نذر الشر التي تصاحب التدخل الغربي في بلادنا عادة، كان احتمال الهزيمة المؤقتة أفضل من خيار القبول بالتدخل الغربي.
إذ ليس من المتوقع أن تنتصر كل الثورات العربية، ومرة واحدة. المهم، أن تنتشر رياح الثورة والتغيير في أنحاء العالم العربي، بحيث يصبح من الصعب على أنظمة التحكم والاستبداد وحكم الأقليات المفسدة أن تستمر في مواقعها.
ولكن الشعب الليبي هو من طلب التدخل الخارجي، وفي حين ليس من المطلوب من الرأي العام العربي تأييد هذا التدخل، فمن الضروي تفهم إرادة الليبيين والوقوف إلى جانب ثورتهم الباسلة. والمطالبة بأن يتسع الدور العربي السياسي والعسكري في ليبيا، باعتباره البديل الأفضل عن التدخل الغربي.
ثمة مخاطر كبيرة تصاحب التدخل الغربي، ولكن الحراك الشعبي الليبي، مدعوماً بحراك شعبي عربي، كفيل بحماية ليبيا واستقلالها.
* كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث جريدة القدس العربي