العرب بين نموذجي "أميركا وأفغانستان" خليل العناني يتزايد الحديث الآن حول فتح مفاوضات بين حركة "طالبان" الأفغانية وبعض القوى الإقليمية والدولية وذلك تمهيداً لإشراك طالبان في الحكم. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد أخطأت قبل خمس سنوات حين أقامت حكومة هشّة بقيادة حامد قرضاي، وتجاهلت بقية القوى والأطراف المؤثرة في أفغانستان وفي مقدمتها قبائل "البشتون"، إلا أن مبالغة البعض الآن في التهليل لعودة طالبان للحكم تبدو كما لو كانت فشلاً حضارياً ذريعاً. وتزداد الماسأة حين يقارن البعض بين "أفول" الولاياتالمتحدة و"انبعاث" أفغانستان ، كدولة قروسطّية تأبى أن تدخل عصر الحداثة والمدنية. وبين الأفول والانبعاث، تقبع دلالات حضارية كاشفة لعمق المسافة التي باتت تفصل بين نموذجيَن حضارييَن يسير كلاهما عكس الآخر ، ويجسدّهما، وللمفارقة، حالتي أميركا وأفغانستان. فمنذ أواخر السبعينات وحتى الآن مرّ البلدان بثلاث دورات متمايزة من التحوّل. بدأت أولاها أميركيا بصعود نجم المحافظين الجدد وسيطرتهم على البيت الأبيض تحت زعامة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريجان ، فى الوقت الذي كان فيه "الثوران" الإسلامي يشق طريقه بين أودية وكهوف أفغانستان التي ترعرع فيها جيل من "الجهاديين" يتزعمهم فيلق من العرب سيثبت التاريخ لاحقاً أنه كان يعدّ العدْة للانقضاض على "مملكة الشر" الأخرى المتمددة غرباً. وقد انتهي عصر "البراجماتية" ذاك ، بأفول "مؤقت" لكلا الطرفين (المحافظين الجدد والأفغان العرب)، وكأن غياب العدو "المشترك" ذاك، قد خلق فراغاُ معنوياً واستراتيجياً سيكون على كليهما محاولة ملأه لاحقاً، كلٌ حسب طريقته. الدورة الثانية جاءت خلال عقد التسعينات حين بدا أن ثمة مواجهة هي واقعة لا محالة بين كلا الطرفين اللذين انهكما فى إعادة بناء صفوفهما. فانبرى المحافظون الجدد فى تعبئة أتباعهم قولاً وعملاً، ناقمين على حقبة "بيل كلينتون" التي أفرطت فى التهاون مع الجهاديين (لنتذكر كل ما يُشاع من أن الرئيس كلينتون تردد فى إلقاء القبض على بن لادن بعد أن حددت المخابرات المركزية الأميركية مكانه)، فضلاً عن انتقادهم المتكرر لتعطيل ماكينة "القطبية الأحادية". ولم تحِلّ الألفية الثالثة ويصل الرئيس جورج دبليو بوش للبيت الأبيض حتى باتت أسماء مثل روبرت كيجان ووليم كريستول وبروث جاكسون ودانيل بابيس وفرانسيس فوكوياما وماكس بوت ودوجلاس فيث وبول وولفيتز أشهر من لاعبي كرة القدم. وهم الذين "اختطفوا" السياسة الخارجية الأميركية، بعدما اختطف مهاجمي الحادي عشر من سبتمبر 2001 طائراتهم لضرب مركزي التجارة العالمي والبنتاجون. أما الدورة الثالثة فقد بدأت بشن الولاياتالمتحدة حربها على أفغانستان، ومحاولة اقتلاع شأفة القاعديين ومن عاونهم من الأفغان والشبكات المحلية فى آسيا وأوروبا فى إطار ما يُسمى بالحرب على الإرهاب. وفيما بدا حينئذ وكأنه صعود مدوٍ لزمرة المحافظين الجدد، بدا وكأنه خفوت لنجم "طالبان" وحلفائها من العرب و"البشتون". الآن وبعد ثماني سنوات كاملة من حكْم الجمهوريين وتألقّهم، تعود الكرّة من جديد، فيتوارى تدريجياً نجم المحافظين الجدد، فيما تواجه بقيتّهم الآن نهاية تراجيدية بفعل الأزمة المالية الطاحنة التي يراها البعض نتاجاً طبيعياً لسياساتهم الاقتصادية. يقابل ذلك انبعاث جديد لحركة "طالبان"، وصعود لأسماء توّهم البعض خطأ أنها قد طويت تحت وطأة القصف الأميركي لأفغانستان، وسيصبح جميعهاً نجوماً للمرحلة القادمة أمثال الملا محمد عمر وقلب الدين حكمتيار وجلال الدين حقاني .. إلخ. وتبدو الأزمة الراهنة كما لو كانت كابوساً حضارياً يطارد الجميع، ما يستوجب التوقف أمام دلالاتها "الرمزية" وأولها أن زمرة المحافظين الجدد، وجميعهم حمقى، تخيّلوا لوهلة أن اقتلاع تنظيم القاعدة قد يكون كفيلاً بتحويل أفغانستان من دولة قروسطّية إلى دولة حديثة قد تدخل عصر السماوات المفتوحة وتتشرب ثقافة الانترنت والهواتف النقّالة، وهي التي لا يزال بعض شعبها يعيش فى الكهوف بدلاً من المنازل. فى حين يبدو إخفاق ما يقرب من 56 ألف جندي من قوات التحالف فى إنهاء حال التمرد التي تقودها طالبان، دليل فشل ذريع على فهم ديناميات العلاقة بين ثلاثية (الدين والطبيعة والمجتمع) فى دولة مثل أفغانستان. وقد بدت محاولات "عصرنة" أفغانستان وانتشالها من غياهب التخلف والعدمية، أشبه بقيادة سيارة ليكزس فى وديان وكهوف كابول وقندهار. وثانيتها أن الأفول الأميركي، ومعه الغربي تباعاً، بقدر ما هو دليل تأزم حضاري، إلا أن "انبعاث" أفغانستان على النحو الذي تركته عليها طالبان قبل سبع سنوات ، وربما أسوأ، يعد بذاته "انتحاراً" حضارياً لا يضاهيه فداحة سوى مطالبة إحدى بلدان أوروبا الشرقية الآن بالعودة إلى الحظيرة الروسية. وثالثتها، أن الغرب، ورغم عثرات أنموذجه إجرائيا وإيديولوجياً، إلا أنه لا يزال الأقدر على الاعتراف بأخطائه وتصحيحها، وهو قد فعلها مراراً طيلة القرن الماضي، فى حين ترزح أفغانستان، ومن يدور فى فلكها فكرياً وقيمياً، تحت وطأة إيديولوجيا "السمو" العدمي Lost Superiority تلك التي لا تقدم نموذجاً حضارياً بديلاً بقدر ما تسعي إلى تحطيم غيرها من النماذج. وهي رغبة لن تتوقف حتى يمتطي أهل نيويورك البعير بدلاً من السيارات. لذا وبدلاً من أن يهلّل البعض بعودة طالبان من جديد، فقط لمجرد النكاية فى الغرب، أن يحزن للحال المأساوية التي وصلت إليها خياراتنا السياسية والحضارية، بحيث نبدو الآن عالقين بين دولة فوضوية تعيش على ثقافة القرون الوسطي ، وأخرى تتبدى عوراتها علي الملأ حالياً، وذلك دون القدرة على طرح نموذج بديل لكليهما. عن صحيفة الوطن العمانية 25/10/2008