ذاكرة تسعين عاماً علي الخليلي هل لا يزال أحفاد النكبة تلاميذ فلسطين الراهن، يستجيبون بهمةٍ عاليةٍ ومتحفزة لطلب أساتذة اللغة العربية لهم أن يكتبوا صباح اليوم الثاني من تشرين الثاني من كل عام، موضوع إنشاء حول "الوعد المشؤوم"، ليفهموا على الفور أنه ذلك "الوعد" الذي اشتمل عليه الخطاب، الذي بعث به في ذلك اليوم من العام 1917 جيمس آرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا، باسم حكومته إلى اللورد اليهودي المليونير روتشيلد، وهم يحفظون نصه المعتم عن ظهر قلب متفجر، أن تلك الحكومة الاستعمارية "تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين لليهود..".. وليكتبوا، ويصبوا نيران غضبهم على ذلك "الوعد" وصاحبه وحكومته؟ أم أن الأساتذة ما عادوا يطلبون، والتلاميذ ما عادوا يكترثون، فالشؤم شامل للتاريخ كله، على مدار الأيام؟ تسعون عاما تمرّ في هذا العام، على نشوء هذا الوعد. فهل يعقل أن تبقى "ذاكرة النص" له على حالها، وقد تغيرت أحوال كثيرة، واختلطت النصوص اللاحقة بالسابقة حتى توارت البوصلة الأولى في خضم الخلط والطمس والتشويه؟ الواقع مع ذلك، يؤكد أن هذه البوصلة بالذات، محصنة ضد الضياع، ولو تراجعت إلى الوراء. حصانة تلقائية لسببين: الأول يتعلق باليهود أنفسهم، وهم يرون في ذلك الوعد أهم مفصل في تاريخهم المعاصر. على أساسه أقاموا دولتهم إسرائيل في العام 1948، ومن خلاله أخذوا هويتهم الإسرائيلية التي لم يكن لها قبله أي وجود أو معنى. ووفق هذه الرؤية، فإن إسرائيل حريصة جداً على ذاكرة النص التاريخي المعني، لأنها ببساطة، ذاكرة استيلائها على أرض فلسطين بعطف ورعاية وقوة بريطانيا، التي كانت محتلة لهذه الأرض، والتي أصبحت لاحقاً، منتدبة عليها، ومنفذة لما وعدت به. والسبب الثاني متماهٍ تماماً مع الذاكرة الفلسطينية. فقد أدرك الشعب الفلسطيني، منذ ذلك الوعد، قبل تسعين عاماً، أن هذا النص، على وجه التحديد، هو بداية نكبته، وفقدانه وطنه وتشرده. فكيف يمكن لهذا التماهي بين النكبة والمنكوب، أن يسقط بالتقادم، أو أن يتلاشى من الوعي المتوارث، جيلاً بعد جيل؟ ورغم هذين السببين الراسخين على أدق تفاصيل التناقض والتناحر، قد يجد الآن، أساتذة وتلاميذ فلسطين أنفسهم في وضع "المتناسي" لهذا الوعد، أو "المتغافل عنه"، تحت وطأة المتغيرات الزلزالية، التي اجتاحتهم، وتستمر في اجتياحهم مرحلة إثر أخرى، وعلى وجه الخصوص في المرحلة الراهنة. ولكنه تناسٍ لا ينسف الذاكرة، وتغافل لا يصادر الوعي، في التراجيديا الفلسطينية. كيف؟ للتعامل مع هذه "الكيفية"، أو لتحليلها وتفسيرها، لا بد من الإشارة إلى أن الذاكرة العربية التاريخية لوعد بلفور نفسه، تكرست أصلاً بنهوض القومية العربية التي رفعت شعارات المقاومة لما صار يسمى "الوعد المشؤوم"، على طريق رفضه، ورفض الدولة التي نشأت على أساسه، ومحاربتها حتى تحقيق التحرير والعودة لشعب فلسطين وإنشاء دولته المستقلة على كل التراب الفلسطيني. وحين سقطت تلك الشعارات، في هزيمة الخامس من حزيران 1967، كانت تلك الذاكرة العربية ذاتها تسقط أيضا، في الوقت الذي كانت فيه الذاكرة الإسرائيلية تزداد تشبثاً بالوعد القديم ومعناه. إلى ذلك، نفهم الآن أن "التناسي" أو "التغافل" الفلسطيني في سياق السقوط القومي العربي، نوع من "التكتيك السيكولوجي" في الذهنية الفلسطينية المعاصرة، كي تتمكن هذه الذهنية من مواجهة التحديات الجديدة والمتلاحقة في آن، وحتى لا تحاصر نفسها في تاريخ أسقطه العرب من حسابهم، منذ عدة عقود. هل يعني هذا الفهم أن وعد بلفور أمسى من حصة الإسرائيليين، وحدهم، يحتفلون به، عاماً بعد عام، وقد تنازلت الضحية الفلسطينية عن حقها في الاستمرار برفضه، وفي اعتباره جريمة تاريخية أدت إلى أخطر وأفظع نكبة في القرن العشرين؟ لا يمكن لهذا المعنى المجتزأ والمشوّه أن يسيطر على الصراع المستمر إلى حينه. فطالما بقي هذا الصراع، بقي الوعد بسببيه السابقين، ولو لمائة سنة، أو ألف سنة أخرى. قد يغيب أساتذة وتلاميذ فلسطين عن كتابة موضوع الإنشاء الكلاسيكي عنه هذا العام، وربما عما يليه من عامين أو ثلاثة. إلا أن البوصلة الأولى المتوارية قليلاً، لا تنكسر أبداً. ثمة في الأرض حضور لتسعين سنة ساخنة، كأنها لم تمرّ بعد، أو كأنها مرت قبل ساعات فحسب. وهو ما يعني أن التاريخ لا يغلق أبوابه أو يفتحها بمزاج القوى المنتصرة في الحرب وصناعة النكبات. عن صحيفة الايام الفلسطينية 1/11/2007