دروس وعبر من أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة
* فيصل على سليمان الدابي
(1) تمهيد
في الفترة من 6 إلى 17 سبتمبر 2008 جرت فعاليات أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة، ولا شك أن الحضور الكثيف والتشجيع الحار من قبل الجمهور الأولمبي في بكين يعكس مدى حجم التحدي ودرجة الإثارة والفرحة الانسانية الغامرة التي يشعر بها جميع البشر عندما يتم قهر الاعاقة وتحطيم الخجل الاجتماعي وإحراز الذهب الأولمبي بطريقة تفوق في روعتها انجازات الرياضيين الأصحاء لأن التفوق رغم العاهة أقوى ألف مرة من التفوق المستمد من اكتمال الصحة، وهذه هي الرسالة الأولمبية النبيلة التي مفادها أن لا حدود للإرادة الإنسانية الفذة التي وصفها الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر بمقولته الشهيرة "لو أن مشلولاً لم يصبح بطلاً فى العدو فهو المسؤول" ، هذه هي الرسالة الإنسانية السامية التي نجح الأولمبياد الصيني العظيم في توصيلها بصورة مدهشة رغم كل التحديات!
(2) حفل الافتتاح
بتاريخ 6 سبتمبر 2008 وفي استاد عش الطائر الكائن شمالي العاصمة الصينية بكين تم افتتاح دورة بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة ، وكما فعلت الصين في حفل افتتاح أولمبياد الأصحاء الذي أقيم في نفس الاستاد في الشهر الماضي فاجئت العالم مرة أخرى بحفل افتتاح مذهل أكد البعض أنه أجمل من حفل افتتاح أولمبياد الأصحاء ، فقد تخللت حفل الافتتاح فقرات العد التنازلي المثيرة، إطلاق شلالات الألعاب النارية المبهرة، دخول وفود الدول المشاركة كل على حدة وموجة التصفيق المدوية من قبل 100 ألف متفرج ، أما أكثر لحظات حفل الافتتاح إثارة فهي بلا شك لحظة صعود اللاعب الصيني المعاق هو بن وهو جالس على كرسيه المتحرك إلى سماء الاستاد وهو يتسلق حبلاً ويحمل مشعلاً في مشهد حبس أنفاس الجمهور بسبب احساس الجميع بالخوف من سقوط المقامر المعاق لكن الذي سقط هو الخوف نفسه فقد تمكن المقامر الصيني الجسور من إضاءة الشعلة الأولمبية رغم المخاطر الجسيمة التي تخللت لحظات عرضه التي شحنت إلى أقصى درجة بعوامل الإثارة ، الخوف والحماس وانتهت بموجة هادرة من التصفيق المدوي من قبل الجمهور الأولمبي المأخوذ!
(3) فعاليات أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة
شارك في مسابقات أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة 4000 رياضي من ذوي الاحتياجات الخاصة ، ولعل أبرز المشاركات تمثلت في المفأجاة التي فجرتها لاعبة تنس الطاولة البولندية ناتاليا بارتيكا حينما تغلبت على عدد من اللاعبات الصينيات لتحرز ذهبية فردي تنس الطاولة وتنتزعها من إيدي الصينيات صاحبات الاختصاص في هذه الرياضة ، كذلك نجحت السباحة الجنوب افريقية ناتالي دو تويت في مفاجأة الجميع حينما احرزت خمس ذهبيات في السباحة، أما النجم الذي تمكن من خطف الأضواء في ألعاب القوى فهو بلا شك الجنوب افريقي اوسكار بيستوريوس الذي يطلق عليه "عداء الانصال" حينما تفوق على نفسه وعلى الآخرين واحرز ذهبيات سباقات 100 و200 و400 متر، جدير بالذكر أن أوسكار بيستوريوس (21 عاماً) الذي يعاني من بتر في ساقيه قد حاول المشاركة مع الاصحاء في أولمبياد بكين 2008 للأصحاء بيد أن آماله تبددت عندما أخفق في تحقيق الزمن اللازم للتأهل لكنه ما زال يأمل في الحصول على مكان في سباق 400 متر مع الأصحاء في أولمبياد لندن 2012، فهذا البطل المعاق الفذ لا يكتفي فقط بالتنافس مع المعاقين وإنما يطمح إلى مقارعة الأصحاء والتغلب عليهم رغم إعاقته ورغم اكتمال صحتهم! ومن الملاحظ أن المنشطات لم تمثل مشكلة كبيرة خلال أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة إذ لم تظهر نتائج ايجابية للعينات بعد إجراء أكثر من الف اختبار للكشف عن تعاطي المنشطات رغم سقوط اربعة رياضيين في الاختبارات التي أجريت قبل انطلاق الالعاب، الأمر الذي دعى فيليب كرافن إلى القول "اعتقد أن الاجراءات التي تم تطبيقها هنا اظهرت أن رياضة ذوي الاحتياجات الخاصة شبه خالية من المنشطات."
(4) الحصيلة النهائية لجدول الميداليات
تماماً كما فعلت في أولمبياد بكين 2008 للأصحاء وأولمبياد أثينا 2004 لذوي الاحتياجات الخاصة ، بسطت الصين هيمنتها مجدداً على جدول ميداليات أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة حيث أحرزت الصين المركز الأول برصيد 89 ميدالية ذهبية وهو ما يزيد عن ضعف ما حصلت عليه بريطانيا صاحبة المركز الثاني التي أحرزت 42 ميدالية ذهبية ، وجاءت الولاياتالمتحدة في المركز الثالث برصيد 36 ميدالية ذهبية ، احتلت اوكرانيا المركز الرابع برصيد 24 ميدالية ذهبية ، حصلت استراليا على المركز الخامس برصيد 23 ميدالية ذهبية بينما احرزت جنوب أفريقيا المركز السادس برصيد 21 ميدالية ذهبية.
بفحص جدول الميداليات يلاحظ المرء أن الرياضيين المعاقين العرب قد تفوقوا تفوقاً كاسحاً على الرياضيين الأصحاء العرب ، فبينما أحرزت الدول العربية مجتمعة ميداليتين ذهبيتين فقط في أولمبياد بكين 2008 للأصحاء ، أحرزت تونس 9 ميداليات ذهبية في أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة، بينما احرزت مصر 4 ميداليات ذهبية ، الجزائر 4 ميداليات ذهبية ، المغرب 4 ميداليات ذهبية والمملكة العربية السعودية ميدالية ذهبية واحدة ، أما السودان فقد خرج من مولد هذا الأولمبياد الصيني بلا حمص وهو أمر مؤسف يعكس عدم الاهتمام الرسمي والشعبي برياضة ذوي الاحتياجات الخاصة في السودان!
(5) حفل الاختتام بتاريخ 17 سبتمبر 2008 وباستاد عش الطائر أجريت مراسم حفل اختتام أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة الذي قام بتصميمه المخرج السينمائي الصيني الشهير تشانج يمو، وقد شارك في الحفل المبهر الذي حفل بالكثير من المشاهد والخلفيات التكنولوجية المدهشة 2000 راقص قدموا عرضاً فنياً مذهلاً تحت عنوان "رسالة إلى المستقبل" وقد هدفت هذه الرسالة الإنسانية النبيلة إلى توديع 4000 رياضي من ذوي الاحتياجات الخاصة ، وفي نهاية حفل الاختتام عادت الحافلة الحمراء التي شاركت في عرض لندن الذي أجرى في حفل ختام أولمبياد بكين 2008 للأصحاء في أغسطس الماضي للظهور مرة أخرى في حفل ختام أولمبياد ذوي الاحتياجات الخاصة ثم تسلم بوريس جونسون رئيس بلدية لندن علم دورة الألعاب الاولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة تمهيداً لاستضافتها بمدينة لندن في عام 1912، ويكفي أن براعة التنظيم قد دفعت فيليب كرافن رئيس اللجنة الاولمبية الدولية لذوي الاحتياجات الخاصة إلى الإشادة بنجاح دورة بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة بقوله في حفل الاختتام "انها أروع دورة أولمبية لذوي الاحتياجات الخاصة على الاطلاق!" 6) عبر ودروس من أولمبياد بكين لذوي الاحتياجات الخاصة
من الملاحظ أن كثير من القنوات الرياضية في العالمين العربي والأفريقي لم تقم بنقل فعاليات أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة، على الرغم من جداول الميداليات التي لا تعرف المجاملة تؤكد أن رياضيو الصين المعاقين قد أحرزوا 89 ميدالية ذهبية في أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة بينما أحرز رياضيو الصين الأصحاء 51 ميدالية ذهبية في أولمبياد بكين 2008 للأصحاء ، نفس الشيء تكرر مع العرب فقد احرز الرياضيون العرب من ذوي الاحتياجات الخاصة 22 ميدالية ذهبية في أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة بينما أحرز رياضيو العرب الأصحاء ميداليتين ذهبيتين فقط لا غير في أولمبياد بكين 2008 للأصحاء! ولا شك أن عدم الاهتمام الذي يصل إلى درجة اللامبالاة بأولمبياد ذوي الاحتياجات الخاصة في بعض الدول العربية والافريقية يعكس ظاهرة الخجل الاجتماعي من الإعاقة علماً بأن كل البشر الأصحاء معرضون في أي لحظة للإعاقة بسبب الأمراض والحوادث وعلماً بأن التاريخ البشري بثبت أن المخترع المعاق توماس أديسون الذي اخترع أكثر من 100 اختراع من بينها لمبة الإضاءة هو أفضل من أي مخترع من الأصحاء ورغم أن أمثال الشعوب في الشرق والغرب تؤكد أن كل ذي عاهة جبار لأن المعاقين يسعون غالباً إلى التعويض عن نقصهم عبر قهر الإعاقة وانجاز المستحيل بينما يركن الأصحاء في الغالب الأعم إلى الخمول استناداً إلى صحة يمكن أن تزول في أي لحظة لأي سبب من الأسباب! إن تفوق الرياضيين من ذوي الاحتياجات الخاصة على الرياضيين الأصحاء من حيث الحصيلة الذهبية الأولمبية ، يوجب على الجميع أن يتأملوا هذه العبر الرياضية وأن يقدموا الدعم المادي والاهتمام المعنوي لكل الرياضيين دون أي تمييز بسبب الإعاقة اياً كان نوعها أو سببها، كما أن قوة الإرادة البشرية لدى المعاقين وقدرتهم الفذة على قهر الاعاقات وانجاز المستحيلات تقدم لكل الأصحاء درساً إنسانياً بليغاً ، هذا الدرس على وجه التحديد هو الذي يجب أن يتعلمه الجميع من أولمبياد بكين 2008 لذوي الاحتياجات الخاصة!