أزمة العلاقات التركية الأميركية محمد حسين اليوسفي لا تحسد الإدارة الأميركية بقيادة بوش هذه الأيام، فهي في الوقت الذي تغوص فيه بوحل العراق وأفغانستان، فقد انفتحت لها جبهة جديدة لم تكن في الحسبان، وهي جبهة الحليف التركي، الذي ظل ركناً رئيسياً من أركان التحالف الغربي أيام الحرب الباردة.
إذ طفت على السطح في وقت متزامن تقريباً قضيتي الأرمن والأكراد، وهما قضيتان حاولت الولاياتالمتحدة الأميركية أن تنأى بنفسها عنهما طويلاً حفاظاً على الحليف التركي.
فقد وافقت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب الأميركي في أوائل هذا الشهر على مشروع قرار يعتبر فيه ما جرى للأرمن في العام 1915 على يد الدولة العثمانية بمثابة إبادة جماعية. وسوف يتم عرض هذا المشروع على مجلس النواب للتصويت عليه في الشهر القادم.
وقد أثار موافقة لجنة الشؤون الخارجية على مشروع القرار ردة فعل قوية وفورية من تركيا، حيث استدعت سفيرها في واشنطن للتشاور، في حين صرح رئيس أركانها الجنرال يشار بويوكانيت إنه إذا تمت المصادقة على هذا المشروع «فإن العلاقات بين أنقرةوواشنطن لن تصبح كما كانت من قبل على الإطلاق»!!
وأهمية تصريح رئيس أركان الجيش التركي لا تخفى على فطنة أي مراقب، فالجيش هو حامي النظام العلماني في تركيا وهو الحليف الاستراتيجي: الأيديولوجي والطبقي للغرب.
وترفض تركيا بشدة تسمية ما حصل للأرمن في العام 1915 بإبادة جماعية، وترى أن من قتل إنما كان نتيجة حرب دارت رحاها في الأقاليم الشرقية.
حيث تحالف الأرمن مع قوات القيصرية الروسية في الهجوم على الدولة العثمانية، ولم يقتل في تلك المعارك سوى مئتين إلى ثلاثمئة ألف أرمني. في حين يرى الأرمن أن تلك كانت إبادة جماعية لهم راح ضحيتها قرابة المليون والنصف قتيلاً، فضلاً عن إجبارها أعداداً كبيرة أخرى منهم على الهجرة إلى العراق وسوريا.
ولا شك أنه يترتب على الاعتراف بالإبادة الجماعية التزامات قانونية من قبيل التعويضات، كما حصل لليهود في ألمانيا أثناء الحرب العالمية الثانية.
أما التوقيت فإنه يؤشر على قوة «اللوبي الأرمني» الذي دأب على طرح قضيته والعمل من أجلها، كما تقول الديرشبيغل (12 /10). ويبلغ الأميركيون المنحدرين من أصل ارمني حوالي المليون ومئتي ألف يتركزون أساساً في كاليفورنيا ونيوجيرسي وميتشغن، وهي الولايات التي تنتمي لها رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسى وزميلها آدم شافت المتبني لمشروع القرار والذي يعتمد على قاعدة انتخابية أساسها من ذوي الأصول الأرمنية.
حيث كسب المقعد من سلفه الذي لم يفلح في الانتخابات نتيجة لفشله في الضغط لتمرير المشروع الأول في العام 2000، إذ تدخل الرئيس كلينتون في آخر لحظة لسحب المشروع.
وكان الرئيس بوش قد تبنى قضية الأرمن في حملته الانتخابية، إلا إنه بدا أكثر تحفظاً منذ أن دخل البيت الأبيض، وفي الأزمة المثارة رأى بأن «أمام مجلس النواب مشروعات قوانين أكثر أهمية للنظر فيها من التنقيب في تاريخ الامبرطورية العثمانية».
أما قضية الأكراد التي باتت تفتر العلاقة الأميركية التركية فإنما ربما تعود إلى ما بعد العام 1991 حيث اعتبرت الولاياتالمتحدة الأميركية منطقة شمال العراق التي يقطنها الأكراد كمنطقة محمية من عسف نظام صدام حسين، الأمر الذي دفع بالأكراد إلى إقامة حكومة تتمتع بالاستقلال تقريباً.
ولم تكن تركيا تنظر بعين الرضا لهذا التطور، الذي قد يغرى أكرادها بالمطالبة بنفس الحقوق. وطالما تدخلت القوات التركية في الأراضي العراقية وبموافقة صدام حسين لملاحقة المتمردين بزعامة حزب العمال الكردستاني الذي كان يترأسه أوجلان.
وقد وقفت تركيا ضد الإطاحة بنظام صدام حسين، ولم تفتح أراضيها لعبور القوات الأميركية منها، ثم رأت في النظام الفيدرالي المتشكل بعد الغزو الأميركي تهديداً لوحدة الدولة التركية خاصة مع سعى حكومة كردستان العراق إلى ضم مدينة كركوك لها، حيث سيصبح تحت تصرف هذه الحكومة ثروة هائلة من واردات النفط. وقد جاءت تحركات حزب العمال الكردستاني الأخيرة كالقشة التي قصمت ظهر البعير.
ويشن حزب العمال الكردستاني حرب عصابات من أجل الاستقلال منذ العام 1984 أودت بحياة أكثر من 37 ألف شخص وتدمير آلاف القرى وهجرت مئات الآلاف من مناطق جنوب شرق تركيا ذات الغالبية الكردية، كما حملت الخزينة المالية التركية أعباء مالية كبيرة، كما تقول البي بي سي (23 /4 /2007).
وكانت تركيا تتهم في السابق سوريا بإيواء هذا الحزب وزعيمه أوجلان وبالسماح له بإقامة قواعد له في سهل البقاع، وتردى الحال بين الطرفين إلى تهديد تركيا بشن الحرب على سوريا، بيد أن الطرفين توصلا إلى ما سمي اتفاق أضنة.
حيث تعهد فيه الطرفان بالتصدي لنشاطات ذلك الحزب ووقف أعماله. وقد استطاعت المخابرات التركية اعتقال زعيم الحزب عبد الله أوجلان وهو يقضي عقوبة السجن المؤبد الآن. وحالياً، تتمركز معظم عناصر الحزب التي تقدر بثلاثة آلاف وثمانمئة مقاتل في منطقة جبال قنديل الواقع بين إيران وتركيا والعراق.
ولا تعترف تركيا بوجود قومية كردية، وكانت تسمي الأكراد ب «أتراك الجبال» ، وكانت تحرم استخدام لغتهم، وتطلق على مناطقهم أسماء تركية وليس الأسماء المحلية التي يتداولها أهل المنطقة وهم من الأكراد. ومع رغبة تركيا في دخول الاتحاد الأوروبي، ومع ضغوطات ذلك الاتحاد، بدأت تركيا مؤخراً بإعطاء بعض الحقوق للأكراد، لكنها لا ترقى إلى تلك الحقوق التي تعطيها الدول الأوروبية المنضوية في إطار الاتحاد لأقلياتها.
وتجد الإدارة الأميركية نفسها في ورطة بين حليف الأمس وهي الدولة التركية القوية، وبين صديق اليوم وهم الأكراد، الذين تحالفوا معها لإسقاط نظام صدام حسين والذين يمثلون عنصراً أساسياً في التركيبة الجديدة للدولة العراقية.
فدخول القوات التركية إلى العمق العراقي في مناطق الأكراد في الشمال سيضع القوات الأميركية والكردية في مواجهة مباشرة مع القوات التركية على اعتبار أن حماية العراق وحدودها هي مسؤولية الدولة المحتلة وهي الولاياتالمتحدة الأميركية.
وعدم تحرك الجيش التركي إلي معاقل حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية سيشجع هذا الحزب على الاستمرار في أعماله العسكرية، مما يزيد الضغط على الحكومة التركية بالقيام بإجراء عنيف ضد هذا الحزب.
وقد يكون تفجر الأزمتين إيذاناً ببداية حل لهما، فإن كانت قضية الأرمن أصبحت في ذمة التاريخ، فإنه يحسن تركها للمؤرخين الثقاة بحسمها، أما قضية الأكراد، فإنه لا بد أن تطرح لنقاش جدي خاصة وإننا نعيش في عصر أصبحت فيه حقوق الإنسان وحقوق الشعوب من البديهيات. عن صحيفة البيان الاماراتية 25/10/2007