بوش والفرص الضائعة! عيد بن مسعود الجهني لم يتبقَ إلا أيام معدودة للمستر بوش ليترك سدة الحكم ويتنحى عن كرسي الرئاسة لغيره، وهذه حال الحكم الذي لا يدوم لأحد (وتلك الأيام نداولها بين الناس)، وأقول للمستر بوش إنني لا أدري هل أشعر نحوك بالغيظ والحنق أم بالرثاء والشفقة، أم بكليهما معاً، وفي الحقيقة إن كلا الشعورين له ما يبرره. أما الشعور بالرثاء والشفقة، فلأنك ضيّعت فرصة ثمينة ونادرة لأن تكون زعيماً يذكره التاريخ بالتمجيد والإكبار والتعظيم، ذلك أن الظروف هيأت لك الوصول إلى سدة الحكم في فترة غاية في الأهمية في التاريخ الحديث، فقد جئت والعالم يواجه مشكلات في غاية التعقيد والخطورة: صراعات دولية، شح في الغذاء، كوارث ومجاعات، نقص في الوقود، عدم كفاية في المياه، تغيّرات مناخية تهدد العالم أيّما تهديد... الخ. في هذه الظروف الحرجة المهددة لأمن العالم، ورفاهية البشر كان يمكن لك أن تكون (جودو) هذا العصر، ويده المنقذة، وتسخر قدرات بلادك الاقتصادية والسياسية والعلمية، لتسهم في قيادة العالم من الخوف إلى بر الأمان، ومن المهددات والصراعات إلى السلام. لو فعلت ذلك لكان التاريخ قد سجل اسمك في عداد السياسيين الأفذاذ والقادة العظماء الذين خدموا البشرية وجنبوها ويلات جساماً، ولكنك للأسف ضيّعت هذه الفرصة الذهبية عليك وعلى بلادك، ولذلك أنا أرثي لك. ولو أنك (مستر بوش) في فترة حكمك عدت بأميركا إلى فترة (الجدار الحديدي) التي كانت تتبعها قبل الحرب العالمية الثانية، منكبة على شؤونها الداخلية منصرفة عن شؤون العالم الخارجي لكنت مقصراً، ولكنك لم تكتف (بالتقصير) بل تجاوزته الى (التدمير)، فإن الشرخ الذي أحدثته في العالم سيظل لسنوات طويلة يبتلع كل الجهود الخيرة لإعادة الأمن والسلام الى العالم، وبذور الإحن والضغائن التي بذرتها في مساحات واسعة سيظل العالم يحصد ثمارها المرة سنوات عديدة بل دهوراً مديدة. ونحن لا نقول ذلك جزافاً ولا نلقي القول بلا دليل، فالدلائل أمامنا واضحة والنيران التي أشعلتها لا تزال ألسنتها تتصاعد تأكل الأخضر واليابس وتخلف الدمار والبؤس. لقد قمت بغزو افغانستان وقتل عشرات الآلاف من أهله وأضعاف أضعافهم من الجرحى والمعوقين، وتشريد أعداد اكبر منهم وتدمير البنية - الضعيفة أصلاً - بقنابلك وراجماتك وصواريخك، وقمتم بترويع المدنيين الآمنين، فقذفتم مساكنهم وأسواقهم وحتى حفلات أعراسهم بالأسلحة الفتاكة المحرمة دولياً، وهو ترويع مقصود ومرير، وان كنتم تعتذرون أحياناً مدعين أن ذلك تم عن طريق الخطأ. والشعب الأفغاني لا يزال يدفع ثمناً غالياً لقرار غزوك الجائر، والشعب الأميركي أيضاً يدفع ثمناً باهظاً من أرواح شبابه، ومن اقتصاده نتيجة هذا الغزو، الذي يكلف بلادك أربعة بلايين دولار كل شهر. ولقد ادعيت - مستر بوش - أنك غزوت أفغانستان للقضاء على «القاعدة» وعلى ابن لادن وعلى «طالبان»، فهل نجحت في ذلك؟ الواقع يقول انه على رغم مرور أكثر من سبع سنوات على الغزو، فإن ابن لادن ما زال حياً طليقاً، والحقائق تقول إن «القاعدة» و «طالبان» تزدادان قوة في أفغانستان وتنزلان ضربات موجعة بقوات التحالف، الأمر الذي جعلك تقرر سحب بعض جنودك من نار العراق وترسلهم إلى جحيم أفغانستان في محاولة لموازنة الكفة او لتعويض ما فقد من جنود، على رغم إعلان وزير دفاعك غيتس انه ليست لديه قوات نظامية جاهزة لإرسالها الى ذلك البلد، وهذا يبرز مدى الضعف الذي آلت إليه قواتك بسبب شن حروب غير مخطط لها. إن ابن لادن الذي تبحثون عنه في أفغانستان هو من صنعكم، فالإدارات الأميركية السابقة هي التي جنّدت ابن لادن وأخرجت «طالبان» إلى الوجود وجنّدت أكثر من 250 ألفاً من المسلمين لقتال الروس في أفغانستان، وقد قدمت بلادك لتمويل كفاح الشعب الأفغاني ضد الاتحاد السوفياتي السابق أكثر من 3 بلايين دولار. وابن لادن كان أحد الذين جندتهم بلادك في تلك الحرب ضد الروس ومواقفكم الجائرة وأوهامكم المريضة هي التي صنعت ابن لادن، فانقلب السحر على الساحر وانقلب عليكم الرجل، ولا شك أن سياستكم الجائرة وظلمكم البيّن وقهركم للشعوب وإذلالها وهضم حقوقها، ستصنع آلافاً من ابن لادن. إن القضاء على الإرهاب وإقامة الديموقراطية وحماية الحريات وحقوق الإنسان لن تتم بغزو البلاد وقتل الناس وهدم البيوت على رؤوسهم، وتدمير منشآتهم وتشريدهم، إنما تتم بإشاعة العدل وإنصاف المظلوم، واعادة الحقوق إلى أهلها، الى جانب بسط روح الإنسانية في عالم اليوم البائس. فلو أنكم (مستر بوش) استخدمتم إمكاناتكم الاقتصادية الهائلة في محاربة الجوع والمرض والفقر والفساد لزرعتم المحبة مكان الحقد والتآخي مكان العداء. ولو أنكم مددتم يدكم بيضاء بالخير والمنفعة للشعوب بدلاً من أن تمدّوها حمراء ملطّخة بالدماء لمدّت لكم الشعوب يداً مليئة بالمودة والعرفان، ولاختفى ما تسمونه (الإرهاب) ولأصبح العالم أكثر أمناً وأوفر رخاءً. لكن العالم اليوم أصبح أقلّ أمناً واستقراراً وشاعت الفوضى وانتشر الإرهاب في بلاد كثيرة زادت عن 60 دولة بسبب سياساتكم، التي قسمت العالم منذ أن أطلقتم نداءكم: إما معنا أوضدنا. وتوقعتَ أن تقضي على «القاعدة» وعلى ابن لادن خلال غزوك أفغانستان، ولكن قراءتك كانت خاطئة مئة في المئة، فزادت «القاعدة» و «طالبان» قوة وعجزت استخباراتك ودولاراتك عن الوصول إلى ابن لادن. اعترفتم أخيراً (مستر بوش) أنكم تواجهون موقفاً صعباً في أفغانستان، والأمر لا يحتاج الى اعتراف، فلسان الحال يقول إنكم تواجهون موقفاً في غاية الصعوبة، وكان عليكم قراءة التاريخ قبل غزو أفغانستان. فالتاريخ يقول إن الأفغان هزموا بريطانيا شرّ هزيمة ومرّغوا أنفها في التراب وأذلّوا كبرياءها، وكانت حينئذ في أوج عظمتها وقوتها. ويقول التاريخ إن الأفغان هزموا الاتحاد السوفياتي (السابق) هزيمة نكراء، وكان أشدّ ما يكون قوة وأقوى ما يكون جيشاً وأكثر ما يكون عتاداً، فأذلّ الأفغان كبرياءه كما أذلّوا كبرياء بريطانيا العظمى من قبل. أعلنتم (مستر بوش) أنكم سوف تتبعون استراتيجية جديدة في قتالكم في أفغانستان، فإذا كانت هذه الاستراتيجية هي ما ظهر في الأيام الماضية من ضرب المدنيين ودكّ القرى وترويع الآمنين، فاسمح لي أن أقول لك إنها استراتيجية بائرة وعواقبها وخيمة، وتدل على أن أميركا مصرة على المضي في الطريق الخاطئ نفسه الذي بدأته. وتلك الاستراتيجية أججت الإحن وأشعلت الحقد والكراهية ضدّ أميركا، والإحن والحقد والكراهية هي الوقود الذي تتحرك به هذه (الآلة) الشرسة التي تسمونها (الإرهاب)، ولا شك أن غارات القوات الأميركية على مناطق القبائل الباكستانية لم تحصد لكم سوى مزيد من الغضب ومزيد من تعاطف تلك القبائل وقادتها مع «طالبان»، لأن قواتكم لم تميز بين الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين وبين المسلحين، ولا حتى بين المساجد والمستشفيات والمدارس. إن الحرب الأميركية - البريطانية على أفغانستان على رغم ما حصدته من أرواح الأطفال والشيوخ والنساء وغيرهم من الأبرياء، والأعداد الكبيرة من الذين أصبحوا مهجرين في الداخل والخارج، وما ألحقته من دمار غير مسبوق في البلاد، وعلى رغم قساوتها وطول مدتها لم تفلح في صد «طالبان»، فحتى اليوم لا تسيطر قوات التحالف إلا على مدينة واحدة هي كابول، بل إن هذه المدينة تعتبر سجناً كبيراً لجنود التحالف لا يستطيعون الخروج منه إلا خائفين مذعورين، وحتى هذا السجن فإنه ليس آمناً تمام الأمان فكثيراً ما يتعرض لهجمات «طالبان». والحصار على العمل الخيري الإسلامي لمساعدة الفقراء والمساكين والمرضى هو من بنات أفكارك، ومع شدة ذلك الحصار وقسوته الذي ربطته بالإرهاب، فإنه خلق مزيداً من الأسى والتعصب لدى الشعوب الفقيرة والجائعة التي كانت تنتظر لقمة العيش فقطعتها أنت بسياستك الظالمة. وعلى الجانب الآخر جندت حملاتك الدعائية وعلاقاتك العامة لتلميع سياسات إدارتك وتحسين صورتها في العالمين العربي والإسلامي، واسمح لي أن أقول لك إنها فشلت فشلاً ذريعاً لأن أقوالك وشعاراتك لم تكن يوماً تتناسب مع أفعالك. فبالله عليك ما هو الإنجاز الذي تحقق في عهدك لأفغانستان غير الدمار والهلاك؟ وما الفائدة التي جنتها بلادك من غزوها غير تبذير أموال بلادك التي تجنى من دم دافعي الضرائب؟ فقد أهدرت أكثر من 160 بليون دولار للاعتداء على شعب أفغانستان وتدمير بلاده، التي تعتبر من أفقر بلاد العالم، لتزيد هذا الشعب فقراً على فقره وعوزاً على عوزه، وأدخلت اقتصاد بلادك في أتون كساد عظيم قد يطيح بإمبراطورية أميركا الاقتصادية. لعلك تتذكر هذه الجرائم البشعة ضدّ الإنسانية وأنت تغادر بيتك الأبيض مودعاً الرئاسة والسلطة إلى الأبد. عن صحيفة الحياة 11/10/2008