أحوال مصر مع استمرار توابع زلزال التزوير الانتخابي الكبير
* محمد عبد الحكم دياب
محمد عبد الحكم دياب من السهل على من يعرف خفايا الحكم في مصر أن يكتشف طبيعة الخطاب السياسي الرسمي، الذي يعتمد المراوغة والعناد والتدليس، وبذلك يتناسب مع طبيعة جماعات المصالح المهيمنة على المشهد السياسي العام.
وحين تحدث الرئيس يوم الأحد الماضي أمام الهيئة البرلمانية للحزب الحاكم اعترف في خطابه بالتجاوزات ثم نفاها.
وهو يعلن سعادته بما حققه حزبه من اكتساح في كل الدوائر، وأبدى مواساته لباقي الأحزاب التي لم تحقق نتائج أفضل على حد قوله.
وكأن الحزب الحاكم لم يكن سببا في ذلك الاكتساح الباطل، وبرئ من دم تلك الأحزاب المسفوك بقانون الطوارئ وقيود الاستبداد وعصا الأمن والقبضة الحديدية التي أوقفت نمو الأحزاب.
الاعتراف كان بحقائق ناقصة أطلق عليها تجاوزات، وهي في حقيقتها جرائم تضع مقترفها تحت طائلة القانون، وتجاهل متغيرات؛ كان عليه أن يتوقف عندها ويتأملها في واقع جديد نشأ بعد الثامن والعشرين من تشرين ثاني/نوفمبر الماضي، سيكون لها ما بعدها في قادم الأيام، فمصر كانت قبل هذا التاريخ غيرها بعده.
المتغير الأول:
يتمثل في النجاح المؤقت لمخطط الحزب الحاكم، في إغراء عدد من الأحزاب للمشاركة وعدم الاستجابة من جانبها لنداء المقاطعة، ومع جلاء شدة فساد العملية الانتخابية وما صاحبها من 'تطهير سياسي' أفقدها أي قيمة.
مع هذا شعرت الأحزاب الكبرى ومعها جماعة الإخوان المسلمين بالخذلان؛ ولم تفاجأ جماعة الإخوان بالموقف منها، وبدت الأحزاب والجماعات الأخرى وكأنها لم تكن تتوقعه.
بعد أن علقت آمالها على وعود وصفقات معلنة وسرية طمعا في قطعة من لحم الإخوان المسلمين، الذين كان لهم حصة الأسد في المجلس السابق.
وعلى الرغم من المعلومات المؤكدة، التي أشرنا إليها من قبل عن حصر معركة أهل الحكم ضد الإخوان المسلمين، حدثت تطورات سبقت يوم الانتخابات بقليل أدت إلى اتساع مساحة الإقصاء، فلم يعد قاصرا على الإخوان المسلمين؛ ليشمل المعارضة والمستقلين وكل من فتح فمه بكلمة نقد أو وجه استجوابا لمسؤول.
وبدلا من قصر الإقصاء على الإخوان تم 'التطهير السياسي' الكامل لكل القوى، مما اضطر الأحزاب للانسحاب، ويستثنى من ذلك حزب التجمع ومعه عدد من 'أحزاب أنابيب'؛ قبلت بالإهانة واستمرت في خداع نفسها، وتصورت أنها تخدع الجمهور والرأي العام.
وضرب حزب التجمع بكل تاريخه عرض الحائط، وتساوى بالأحزاب المجهرية، ونموذجها الصارخ حزب العدالة الاجتماعية، الذي نجح في صفقة كان في أمس الحاجة لها، وحاز حصانة برلمانية تحول دون وقوعه تحت طائلة القانون مرة أخرى.
وكانت قد صدرت ضده أحكام بالسجن؛ ألغيت في الاستئناف، ثم أحزاب مثل حزب السلام والجيل؛ كلها قبلت طمعا في 'معلوم نقدي' متوقع ثمنا لكل رأس تقوم بدور 'المحلل' في انتخابات الرئاسة. هذا النجاح المجهض زلزل جناحي الموالاة والمعارضة.
وبدأنا نعيش توابع ذلك الزلزال منذ الجولة الأولى للانتخابات.
المتغير الثاني:
نجم عن 'التطهير السياسي' الذي تم في ذلك التاريخ ومأ أحدثه في الواقع السياسي المصري، حيث أصبح الشارع مكانا جامعا لقوى مختلفة الأهداف والايديولوجيات، وما كان لها أن تلتقي وتتعاون لولا حماقة أهل الحكم، واحتكارهم كل الغباء لأنفسهم.
جمع الشارع أحزاب الوفد والجبهة الديمقراطية والغد (جناح أيمن نور)، وكلها محسوب على الاتجاه الليبرالي، وتقع في الوسط ويمين الوسط واليمين. جمع الشارع هؤلاء مع الجمعية الوطنية للتغيير وجماعة الإخوان المسلمين.
وكلها لا تميل لاستبدال الحكم، وتضغط لتوسيع دائرة المشاركة والتداول السلمي للحكم، بجانب عناصر مستقلة وأخرى راديكالية؛ كحركات كفاية و6 إبريل والاشتراكيين الثوريين؛ تدعو جميعها لتغيير الحكم، أي أنها ترفض الحكم برمته.
هذه الجماعات على اختلاف مشاربها وتوجهاتها التقت بعد أن أجبرها 'التطهير السياسي' إلى النزول إلى الشارع، وقد كان البرلمان يستوعب جماعات وعناصر منها؛ وُضِع الجميع في خندق واحد؛ ضم الأحزاب المعارضة الرسمية مع أشد الجماعات راديكالية وخشونة.
ولو كانت السماء قد انطبقت على الأرض قبل الثامن والعشرين من تشرين الاول/ نوفمبر الماضي ما كان لهذه الجماعات والأحزاب أن تتقارب أو تلتقي بهذه السرعة ولا بتلك الصيغ!
المتغير الثالث:
أثر الوعد الكاذب بنزاهة الانتخابات وشفافيتها، وبدا الهدف هو تأكيد قبول أحزاب المعارضة الكبرى بما يلقى إليها من فتات، وفرض الذلة عليها، وقد خدعت نفسها لأنها تعلم عدم صدق ذلك الوعد، وجاء التصديق أملا في وراثة تركة الإخوان المسلمين.
وما ترتب على ذلك من تمرد داخلها، وأصبحت بين نار الداخل وحريق جبهة المواجهة مع أهل الحكم في الخارج، ورغم أن ذلك قد يعطي انطباعا بأن هذا الوضع يحقق مصالح الحكم، وقد يكون ذلك غير دقيق، فالعداء للحكم أضحى له الأولوية على ما عداه، ويوحد بينهم جميعا، ويخفف من حدة الانفجارات المتوقعة بينهم.
واحتمال القطيعة مع أهل الحكم الأكثر ترجيحا في ظروف أفضل ولم تكن مواتية من قبل. تمزقت فيها غلالة الليبرالية الكاذبة التي حاول الابن أن يستر بها عيوب منظومة الاستبداد والفساد والتبعية والتوريث؛ المكشوفة على الملأ.
ويؤخذ على هذه الأحزاب تغاضيها عن تجاربها وخبراتها المريرة السابقة ويقينها بكذب الوعود الرسمية على مدى العقود الثلاثة الماضية.
المتغير الرابع:
يتعلق بلغة التخاطب بعد الثامن والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر من جانب المعارضين والمستقلين، كانت كتاباتهم وأحاديثهم تنتقي كلماتها بدقة، وتحرص على عدم الاقتراب من الابن ، وتراها دائمة التركيز على اتهام الحزب الحاكم وحده عن ما وصلت إليه أحوال البلاد.
وكان أغلب الكتاب والمحللين والصحافيين يتحسسون من تسمية الأشياء بمسمياتها، ويوجهون جام غضبهم ويوجهون لومهم إلى الحزب الحاكم وكأنهم يبرؤون المسئولين عنه من مسؤوليتهم عن السقوط الذي حدث للدولة والنظام، وكأن الحزب يعمل بمعزل عنها، ونسي هؤلاء أن الابن هو الرئيس العرفي للحكم والحزب أيضا.
وهل يمكن أن نتصور أن أجهزة الإدارة والأمن وجحافل البلطجة وفرق شراء الذمم والأصوات ومليشيات العنف مارست ما مارست دون رغبة القائمين علي امر الحزب وبعيدا عن قراراتهم توجيهاتهم؟ .
وهل الحزب الحاكم حزب حقيقي يملك إرادة منفصلة عن إرادتها، وبعد أن كان الحزب جهازا إداريا وفنيا قبل رئاسة الابن تحول إلى جمعية للمنتفعين وهيئة للمستثمرين ورجال الأعمال والمضاربين ووكلاء الاحتكارات والشركات الغربية والصهيونية؛ جمعية همها الأول والأخير الاستحواذ على كل شيء، وفرض الحرمان على باقي الناس.
إنه كيان بلا إرادة، وليس له تأثير حقيقي على الناس. وهذا المتغير زاد من عدد الذين يشيرون بأصابع الاتهام المباشر إلى عائلة مبارك فيما اقترفت في حق الشعب والمجتمع. وهذا بداية لها ما بعدها!!
المتغير الخامس:
يتعلق بتحرك ابن الرئيس ، الذي بدا وكأنه بعيد عما جرى في الانتخابات، وليس في بؤرة الاهتمام، أو في مركز الفعل طوال الجولة الأولى من الانتخابات وجولة الإعادة، وثبت من أوثق المصادر القريبة من الرئاسة أن ذلك لم يكن حقيقيا، فالابن كان اللاعب الرئيس، الذي اختبأ خلف واجهتين.
الأولى واجهة الأب؛ ومهمته تجنيد وتحريك الجهاز الحكومي وحشد أجهزة الأمن والشرطة للقيام بمهمتها التي حددها جمال مبارك، وتحييد المطلوب تحييدهم؛ ممن لم يستجيبوا بعد لمطلب التوريث في المؤسسات التي لم تُحدد موقفها من الرئيس القادم لمصر.
والواجهة الثانية حشد من رجال الأعمال؛ أوكل قيادهم إلى أحمد عز، الذي بدا في الصورة منفردا وكأنه الآمر الناهي؛ معلنا وفاة الحرس القديم وتسليم الزمام للابن ونزل رجال الأعمال بثقلهم المالي وقوتهم الجرارة من الأتباع والبلطجية والمليشيات الخاصة.
فتوفرت لهم الحماية اللازمة، واشتروا الأصوات اللازمة لهم، بجانب وظيفة كانت الأهم؛ أوكلت لهم. هي ترويع الناخبين كي لا يذهبوا إلى صناديق الاقتراع.
تيسيرا لعمليات التسويد والتزوير والقيام بواجب الانتخاب نيابة عن المواطنين، وهذه الخطة خففت كثيرا عن الابن، وبدا وكأن العبء كله كان على كاهل أحمد عز، في محاولة لتبييض وجه الابن وادخاره ليوم قادم سيحل قريبا.
المتغير السادس:
وهو الأهم، ونعني به قيام البرلمان الشعبي الموازي، الذي شكله الأعضاء السابقون؛ ضحايا التزوير، ويضم عددا من رموز العمل الوطني ومن قوى التغيير، ومن مهامه الطعن في دستورية البرلمان القائم والعمل على إسقاطه.
والتقدم للبرلمان الدولي من أجل اتخاذ موقف من 'التطهير السياسي' ومن الإقصاء الذي تعرضت له المعارضة، ومحاسبة المشاركين فيه.
ودراسة إمكانية إقامة قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية بعدم اعتماد أعمال مجلس الشعب الجديد وإعادة إجراء الانتخابات مرة أخرى، وممارسة التشريع والرقابة المطلوبة في مواجهة تشريعات ورقابة المجلس الحالي. ومتابعه 3700 دعوى انتخابية أمام القضاء الإداري؛ صدر فيها 1000 حكم. لم ينفذ منها سوى 15 حكما فقط.
والبرلمان الشعبي يعمل على استمرار العلاقة القوية بين النواب السابقين وناخبيهم، ويعمل على ربطهم بباقي القوى والتيارات المعارضة والراديكالية المتصدية للحكم.
وميز هذا التطور الجديد للصراع الدائر بين أهل الحكم والقوى الوطنية أنه أعطى الصراع نكهة حضارية لاعتماده على القانون، واعتبار الدستور مرجعيته الأساسية.
في ظروف مواجهة مع حكم لا يلتزم بالقانون أو الدستور، وهذا هو الذي أفقد الحكم القدرة على التمييز بين الفعل القانوني والسلوك الإجرامي.
والمتأمل لهذه المتغيرات يجد أنها تكشف الفجوة الواسعة بين التطلعات العامة وقبضة السلطات الباطشة المستبدة. وفي نفس الوقت أدخلت مصر مرحلة متقدمة احتل فيها مطلب تغيير الحكم أولوية قصوى.
وأضحى شوقا عاما لم يبق قاصرا على الجماعات والأحزاب الراديكالية دون غيرها.
* كاتب من مصر يقيم في لندن جريدة القدس العربي 18/12/2010