كانت ثورة يوليو من عام 1952، منعطفا تاريخيا كبيرا، في مسيرة التطور السياسي في مصر، إذ فرضت على المجتمع المصري "قطيعة سياسية" مع "التراث الليبرالي" الذي كان سائدا، حتى عشية جلاء الأسرة العلوية الحاكمة، بعد أيام من استيلاء "الضباط الأحرار" على مقاليد الحكم في القاهرة. وبعد أن كانت مصر في حضانة أحزاب تتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، ونظام برلماني يراقب أداء الحكومة، ويخضعها لنظام "محاسبة" شديد الصرامة، باتت صباح يوم الثورة، دولة خالية من الأحزاب، يحكمها ضابط من الجيش، تنقصه الخبرة السياسية التي تؤهله لإدارة بلد كبير بحجم "أرض الكنانة". وخضعت البلاد من غربها إلى شرقها، لهيمنة "حزب الرئيس" والذي أُستقر على تسميته "الاتحاد الاشتراكي"، وهو تنظيم يعتمد على جماعات المصالح والولاء لشخص الرئيس وفكره، ولا يجوز لمصري أن يشكل تنظيما أو جماعة أو حركة أو حزبا، ينافس الاتحاد الاشتراكي على الولاء، ولا يحق له الترقي في الوظائف الحكومية، أو الالتحاق بما تسمى وظائف "المكانة الاجتماعية" إلا إذا كان يحمل بطاقة عضوية بحزب الرئيس. وغاب عن الخطاب السياسي السائد في مصر في تلك الفترة مصطلح المعارضة، وحلت مكانه مفردات أخرى استهدفت الإساءة إلى أي شكل من أشكال المعارضة وتخوينها وإدراجها على قائمة "الرجعية" و"أعداء الشعب"، وسيق المئات من المعارضين السياسيين إلى أعواد المشانق، من بينهم العشرات، أخذوا بالشبهة، بعد مثولهم لدقائق أمام محاكم استثنائية صورية. وظلت مصر على هذا النحو في حضانة "الهيمنة الرئاسية"، إلى ما بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، والذي ترك لخلفه نظاما قانونيا ودستوريا، يتيح له سلطات واسعة، فيما تصادر حق القوى السياسية الأخرى من التعبير عن وجودها، في الوقت الذي كانت فيه الأجيال الجديدة خاضعة لنظام تعليمي و ثقيفي، يستهدف النيل من فترة الحكم الليبرالي قبل الثورة، والتركيز على "فساد الأحزاب" إبان الحكم الملكي، ما أفضى إلى تخريج جيل لا يعرف عن التجربة الحزبية المصرية إلا الفساد والانتهازية، والإعلاء من قيمة "الحزب الواحد" والذي يعبر عن وجهة النظر الرسمية باعتبارها الأكثر صدقا وصوابا وتعبيرا عن مصالح الأمة !!، على النحو الذي يبدو وكأن مصر خضعت فيما بعد يوليو 52 ، إلى ما يشبه "التطهير الحزبي"، وحمل الجميع على اعتناق "دين الملك"، وذلك للقضاء على التعدد والتنوع السياسي والتمايز الاجتماعي والطبقي، الذي يعتبر "رصيد الدولة" متى شاءت التأسيس لحياة سياسية تعتمد على التعدد والتباين الفكري والسياسي، حتى إن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، عندما شاء أن ينقل مصر من مرحلة "الحزب الواحد" إلى تجربة "التعددية الحزبية" بدت مصر أمامه وكأنها بلد خال من "جماعات سياسية" مؤهلة ومستعدة للانتظام في هياكل مؤسسية، إذا ما أُتيحت لها الفرصة للانتظام و"المأسسة". وليس أدل على ذلك من أن الأحزاب الكبرى الحالية نشأت بقرار من القيادة السياسية، قضى بتحويل المنابر الثلاثة (الوسط واليمين واليسار) إلى أحزاب، في 11 نوفمبر 1976 . ثم تلا ذلك نشأه الأحزاب الأخرى بشكل بيروقراطي صرف، من خلال خطوات إدارية حددها قانون الأحزاب السياسية (قانون 40 لسنة 1977). ويعتبر نشأة الأحزاب المصرية على هذا النحو، هو جوهر أزماتها وسر ضعفها، حتى تحولت في الآونة الأخيرة إلى مجرد "شقق صغيرة"، تتسول لمن يدعمها ماليا وعجزت عن تدبير قيمة إيجار مقارها، وسداد فواتير الكهرباء التي تستهلكها، وباتت صحفها مهددة بالتوقف عن الصدور بسبب تراكم ديونها للمطابع وعجزها عن سداد رواتب الصحفيين. حيث تحولت إلى "معارضة ديكورية"، لا قيمة لها بالنسبة للنظام السياسي، إلا كأداة للمزايدة، والتجمل بها أمام العالم و الادعاء بأن في مصر ديمقراطية و نظام يقوم على التعددية السياسية. لا شك إذن أن أزمة المعارضة المصرية تعود في جانب كبير منها إلى أنها كانت في نشأتها "هبة من السلطة" و ليست تعبيرا عفويا عن "ركيزة اجتماعية" لها ثقلها السياسي في المجتمع المصري ولذا ولدت رهينة" المزاج الحكومي"، فإن شاءت السلطة أكرمتها و إن غضبت عليها أهانتها وربما أغلقتها كما يقول المصريون ب" الضبة والمفتاح"، بل إنها الآن غير قادرة على أن تنال احترام صانع القرار في مصر، خاصة فيما يتعلق بملفين بالغي الخطورة والأهمية على مستقبل التطور السياسي وهما ملفا الإصلاح والتوريث. فبالنسبة للأول، فإن الرئيس مبارك يريد إصلاحا لا يأتي بالإسلاميين لا في المجالس البلدية ولا في البرلمان ولا في الحكومة ولا على مقعد الرئاسة، وهي رغبة تعتبر تحديا كبيرا للإسلاميين الذين يعتبرون المعارضة الرئيسية والأساسية في الشارع المصري، وخاصة "حركة الإخوان المسلمين" الذين يتحدثون بثقة غير عادية إذا ما سئلوا عن رأيهم فيما يتردد بشأن المستقبل السياسي لنجل الرئيس مبارك، إذ يعربون عن عدم معارضتهم في أن يخوض مبارك الابن السباق على مقعد الرئاسة، شأنه شأن أي مواطن مصري، شريطة تعديل الدستور على النحو الذي يحقق المساواة بين المواطنين في ذلك الشأن وأن تجري الانتخابات تحت إشراف مجلس القضاء الأعلى. جماعات المعارضة تعطي لمصالحها الضيقة الأولوية إذا ما خيرت بين تلك المصالح وبين أخرى حتى وإن كانت تتعارض مع قناعاتها السياسية. ولعل أطرف ما في هذا السياق، أن معظم الأحزاب المصرية الليبرالية منها والمناهضة للديكتاتورية، نشرت منذ سنوات قليلة مضت إعلانات مدفوعة الأجر، تبرز "ديمقراطية" النظام التونسي واحترامه لحقوق الإنسان!! في الوقت الذي أدانت فيه منظمات حقوق الإنسان الدولية، ممارسات هذا النظام ومصادرته للحريات العامة وحقوق المرأة، وتفشي تعذيب السجناء السياسيين في معتقلاته والاعتداء عليهم جنسيا!!، ما جعل الناس في مصر تتهكم على تلك الأحزاب وتفقد الثقة فيما تدعيه من برامج و مشاريع إصلاحية، معتقدة بأنه يمكن "شراء سكوتها" إزاء أية ترتيبات لنقل السلطة في مصر أيا كان شكلها، إذا ما تلقت تلك الأحزاب وعودا ب"مكافأة سخية" نظير تفهمها لتلك الترتيبات.