تكرر كثيرا في الأدبيات الفلسطينية وبعض العربية، وفي المؤتمرات والندوات، بل ومحاضر الأممالمتحدة، ويتردد كثيرا هذه الأيام في وقت تتدهور فيه مكانة القضية الفلسطينية، مفهوم "الحقوق الثابتة" للشعب الفلسطيني.
وأحيانا يحل محل كلمة "الثابتة"، أو يضاف إليها، عبارة "غير القابلة للتصرف". ويحيل البعض هذه الحقوق على "مواثيق وقرارات دولية"، ويتجاهل حقائق ومسلمات طبيعية وتاريخية.
والملاحظ أن تضاربا يصل حد الفوضى يكاد يسيطر على "المفهوم"، ما يؤدي إلى سقوطه في ضبابية سميكة، يمكن أن تكون مقصودة، تجعل ممكنا تطويعه والتلاعب به سياسيا في سياقات البحث عن حل للقضية الفلسطينية.
إن ذلك يطرح سؤالا هو موضوع هذا المقال، وهو: ماذا يعني على وجه الدقة مفهوم "الحقوق الثابتة، غير القابلة للتصرف" للشعب الفلسطيني؟
هنا تبدو مؤسفة الحاجة إلى العودة للحقائق المعروفة، لكنها تبدو ضرورية، فهناك من ينسى وهناك من يتناسى. فأولا، معروف أن أولى الخطوات الهامة التي خطتها الحركة الصهيونية على طريق تحقيق أهدافها تمثلت في عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل السويسرية العام 1897.
أما الخطوة الأولى البارزة التي خطاها "المشروع الصهيوني" فتمثلت في صدور "وعد بلفور" في العام 1917، ذلك الوعد الذي حمل اسم وزير الخارجية البريطاني والذي التزمت فيه الحكومة البريطانية بمهمة العمل على "إقامة وطن قومي لليهود" في فلسطين.
حيث منح من لا يملك ما لا يملك لمن لا يستحق. وقد نفذت بريطانيا، التي انتدبتها عصبة الأمم على فلسطين، مهمتها على أكمل وجه في الفترة ما بين 1922- 1948، فهيأت الظروف لإعلان "دولة إسرائيل".
ثانيا، سبق إعلان دولة الكيان الصهيوني صدور قرار الجمعية العامة رقم 181 لعام 1947، وهو ما يعرف بقرار التقسيم، الذي أعطى اليهود 54% من أرض فلسطين وهم الذين لم يكونوا يملكون إلا 5% من الأرض، اشتروها بالمؤامرات والتزوير من ملاك غير فلسطينيين.
ثالثا، بعد الإعلان عن قيام الدولة، من خلال عمليات التطهير العرقي والتهجير القسري للمواطنين العرب، وعبر أكثر من هدنة، وصلت نسبة ما سيطرت عليه من الأرض الفلسطينية إلى ما نسبته 78% من البلاد.
في الأثناء، كان قد صدر في العام 1949 عن الجمعية العامة القرار 194 الذي قضى بعودة المهجرين إلى بيوتهم والتعويض عليهم، لكن الحكومة الصهيونية لم تنفذ القرار.
ومع أن قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967 قضى بعدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة، وطالب بالعودة إلى حدود 4 حزيران 1967، وكذلك فعل القرار 338 في العام 1974، إلا أن شيئا على الأرض لم يتغير.
بل بالعكس اتخذ الكنيست قرارا بضم القدسالشرقية، وبدأت عمليات الاستيطان تغزو مناطق الضفة الغربية. وهكذا لم يبق للفلسطينيين من الأرض سوى حوالي 22%.
بقي منها بعد توسع العمليات الاستيطانية، وبعد اتفاق أوسلو 1993، مساحة لا تزيد عن ما نسبته 8% من أرض فلسطين، وهي ما يتفاوضون عليها اليوم.
رابعا، كانت إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين جزءا من المشروع الاستعماري الغربي في المنطقة، وكان نفوذ الدول الاستعمارية، على الأرض وفي المحافل الدولية، هو الجرافة التي أنجزت المهمة.
لذلك كانت كل القرارات الصادرة والمتعلقة بالقضية الفلسطينية باطلة من الأساس وغير شرعية. أيضا كان، ولا يزال، اللجوء إلى ما يسمى "الشرعية الدولية" لاسترداد "الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف" العائدة للشعب الفلسطييني باطلا وعبثيا.
وليس أكثر من دليل عجز وتبعية الأنظمة العربية، إذ كان يجب أن يكون معروفا سلفا ما ستنتهي إليه الأمور من ضياع للحقوق.
خامسا، كانت فلسطين، قبل صدور وعد بلفور وقبل الانتداب البريطاني، أرضا عربية منذ الفتح الإسلامي على أقرب تقدير، وظلت كذلك في ظل الحكم العثماني.
وعليه، فإن أول "الحقوق الثابتة" للشعب الفلسطيني هي ملكيته لأرض فلسطين الكاملة، ولا يستمد هذا الحق لا من وعد بلفور، ولا من قرار التقسيم، ولا أي من "قرارات الشرعية الدولية" ولا من أي مصدر أو جهة أخرى، بل من الحق التاريخي والطبيعي لملكية العرب الفلسطينيين لهذه الأرض.
سادسا، وعليه، فإن استرداد فلسطين وعودتها لأصحابها العرب لم ولن يتحقق باللجوء إلى "شرعة" اللصوص أو قراراتهم، بل بتحريرها من الغزاة.
وبالتحرير فقط تصبح الحقوق التي يتضمنها مفهوم "الحقوق الثابتة"، كحق العودة وحق تقرير المصير، تحصيل حاصل، وبدون التحرير لا أمل في عودة أو تقرير مصير.
إن الاعتراف بالسارق والتفاوض معه يعني التنازل عن "الحقوق الثابتة" جميعا، والذين يتحدثون عن فلسطين ناقصة ولو شبرا من الأرض.
أو يفهمون "الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف" على أنها "الدولة الفلسطينية المستقلة في حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية"، يزورون "المفهوم" من منطلق الاستسلام وعلى قاعدة التسليم للغزاة اللصوص بما سرقوه.
سابعا، يمكن أن يدور النقاش حول طرق التحرير، أو مراحله أو وسائله، لكن ليس على كم من ألأرض يمكن أن نتنازل للغزاة.
والذين يتذرعون، مثلا، بموازين القوى الحالية، باسم الواقعية، عليهم أن يتذكروا أنهم بنضالهم وثباتهم والتمسك بالحقوق كاملة يستطيعون تغيير الموازين الحالية المختلة لصالحهم، وأما الذرائع فلا تبرر الاستسلام أو الخيانة، ولا تجعلهما بديلا عن مواصلة الصراع والنضال من اجل استرداد الحقوق .