صدرت رواية "العمامة والقبعة" لصنع الله إبراهيم هذا العام، وفي ظني أنها استكمال لحالة الانزلاق نحو التاريخ التي مارسها صنع الله منذ العام المضي حين كتب عن قاهرة الثلاثينيات والأربعينيات في روايته السابقة "تلصص"، ليفاجأنا هذا العام بتلك الرواية التي يعود فيها للقرن الثامن عشر، وبالتحديد أيام الحملة الفرنسية على مصر. المثير في الأمر أن هناك العديد من الأعمال الروائية والسينمائية التي تناولت هذه الحملة من وجوه مختلفة، فما الجديد الذي يقدمه صنع الله ابراهيم في هذا الأمر؟!، في يقيني أيضا أن هذه الفترة تمثل واحدة من أكثر الأحداث ثراءا في التاريخ المصري ، فهي تعكس شراسة المصريين في مواجهة المحتل، وطالما أن اللحظة الراهنة لاتستحق الكتابة لعدميتها المفرطة فمن الأفضل العودة للتاريخ، لكن الأمر ليس بهذه البساطة من التفسير مع صنع الله فهو يفعل ذلك عن سبق إصرار وترصد! . مفتاح هذا العمل يبدأ من غلاف محيي الدين اللباد، وأعتقد أن هذا الغلاف وحده يمثل نقلة نوعية في أغلفة الروايات المصرية، فالغلاف جمع بين التلصص والمواربة والافتتان بالآخر وهيمنة الديكتاتورية التي لاترى في الحياة سوى صورتها الذكورية القبيحة. تدور الرواية إذن حول الحملة الفرنسية على مصر، وموقف الشعب المصري والأتراك والمماليك منها، مافعله صنع الله أنه أتى بجبرتي موازي للجبرتي الحقيقي، بل يعمل لديه مساعدا في الوراقة - أي يعمل كاتبا لديه وناقلا للأخبار – هذا المساعد يريد أيضا كتابة تاريخ الحملة الفرنسية على مصر، لكنه يكتب بشكل مغاير لأستاذه الجبرتي، لقد تقمص صنع الله ابراهيم شخصية هذا المساعد بكل مافيه من قوة وضعف إنساني وبدأ يكتب مستعينا بالتاريخ الميلادي بدلا من التاريخ الهجري، مع تركيزه على الحياة الشخصية والسرية لأبطال العمل، إنه يكتب عن كل شئ وليس مؤرخا محايدا كالجبرتي، إنه صنع الله ابراهيم جبرتي القرن الواحد والعشرين. لا نتعرف على إسم هذا المؤرخ العجيب حتى الربع الأول للرواية حيث يدور هذا الحديث :
"سألتني "بولين" بعد انصراف "فنتور" : هل أنت مملوكي أو تركي أو فلاح؟ عجبت للسؤال الذي لم يخطر على بالي من قبل.فكرت لحظة ثم قلت : مصري! قالت سألقبك إذن بالمصري !" هذا هو إذن لقب الراوي الذي كان عليه أن يكتب التاريخ الحقيقي على المستوى الخاص والعام للفرنساوية في حملتهم على مصر، تكتشف أيضا أن مقولة جلال أمين أيضا تتحقق في العمل فقد فعل المصريون في المصريين الكثير. عين هذا الراوي –المصري – لاتترك التفاصيل، إنها التفاصيل الصغيرة روح هذا العمل، فهناك اهتمام إلى حد التطرف بالمأكل والملبس والمكان، إنه يعيد بناء القاهرة في نهاية القرن الثامن عشر حيث تدور أحداث الرواية بنفس أسلوب السرد لدى الجبرتي يوما بيوم، ثم تتقاطع الأيام لتمثل مجموعة من الفصول بلغت تسع بدأت في 22يوليو 1798 وانتهت بعدها بثلاثة أعوام في الاثنين 31 أغسطس 1881، الليلة التي بدأ بها التأريخ هي الليلة التي سبقت الثورة، فبعد استباب الأمن للفرنساوية بدأت الثورات الشعبية ومن خلفها المشايخ والمثقفين. يحترم المؤرخ المصري خصوصية المكان، يركز على العلاقة بين المسلمين والأقباط، يتسامح مع صديقه القبطي حنا، إنه المؤرخ المثقف، أما العامة والدهماء من الشعب من الجانبين فهم في واد آخر، إنه واقع اليوم، لايترك صنع الله ذلك دون مد إنساني وشغف جنسي بالزنجية (الساكتة) وعلاقة الحب مع الفرنسية (بولين). لم يترك صنع الله ابراهيم الشارع المصري بما يحدث فيه اليوم، إنه يتهم الجميع ويضع بإصبعه في عين من يريد، في عين كل المشتركين في الجريمة، مايحدث اليوم هو نفس ماحدث بالأمس، الغوغاء والجهلة هم الذين يحركون الشارع ويقلبونه من الجانبين، دورة التاريخ تتكرر، ويرتكب المصريون نفس الجريمة، وترتكب فيهم نفس الجرائم من قبل السادة، ومن قبل المحتل، القاهرة إذا تكرر أفعالها دون مواربة وبجهل وبنية مبيتة، هذا هو مارأيته في العمامة والقبعة!.
** رئيس قسم المكتبات بجامعة حلوان مصر مستشار المنظمة العربية للتنمية الإدارية