تحديد هوية العدو مهمة الرئيس الأمريكي القادم عاطف الغمري عقب انهيار الاتحاد السوفييتي عام ،1991 شغلت مراكز بحوث الفكر السياسي في الولاياتالمتحدة بعمل أبحاث ودراسات حول موضوع البحث عن عدو، أي العدو البديل الذي سيحل محل العدو السوفييتي السابق، مع الأخذ في الحسبان أن مراكز البحوث هذه شريك للمؤسسة الرسمية في صناعة السياسة الخارجية، بوصفها مصانع السياسة الخارجية، (وهذا موضوع آخر). في البداية تنوعت الصياغات التي أسفرت عنها موجة المناقشات لهذا العدو القادم، فطرح اسم الصين، ثم ما سموه العدو المسلح، وكانت وراءه جهات صهيونية، وبرز في بعض الدراسات اسم أوروبا الموحدة ليس كعدو، وإنما كمنافس قد تشتبك مع الولاياتالمتحدة في حرب تجارية، لكن هذا الطرح لم يلق قبولاً أو توافقاً عاماً حوله من النخبة المتربعة على قمة مراكز صنع السياسة الخارجية، على أساس أن أياً منها لا تنطبق عليه معايير العدو، التي انطبقت على الاتحاد السوفييتي، كقوة لها استراتيجية عالمية، وإمكانات عسكرية قادرة على تهديد وجود أمريكا ذاته، وهي القدرات نفسها التي امتلكتها أمريكا تجاه الاتحاد السوفييتي، وهما اللذان دار بينهما صراع أيديولوجي ترى فيه كل منهما أن بقاءها مهدد ببقاء الأخرى. إلى أن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ايلول ،2001 ثم إعلان حكومة بوش استراتيجية الأمن القومي الجديدة في 20 سبتمبر ،2002 واختيارها الإرهاب عدواً بديلاً، وإعلانها حرباً عالمية على الإرهاب. ونتيجة لخلل عضوي في بناء الاستراتيجية الجديدة لبوش، تضاعف حجم الإرهاب ثلاث مرات، ولم تصبح أمريكا أكثر أماناً حسب تقدير خبراء السياسة الخارجية الأمريكية، واتضح أن أمريكا في ظل حكم بوش خلقت لنفسها أعداء متعددين، بدل أن تقضي على العدو الذي اعتبرته بديلاً عن الاتحاد السوفييتي السابق. والمتابع لما يجري في أمريكا من مناقشات في مراكز البحوث والمعاهد الأكاديمية، يجد أن مسألة العدو وتحديد هويته، سوف تلقي أولوية أمام الرئيس القادم. أحد الذين تعرضوا لهذا الموضوع أخيراً المؤرخ البريطاني البروفيسور لورنس فريدمان في كتاب بعنوان “اختيار الأعداء: أمريكا تواجه الشرق الأوسط". وفريدمان من خبراء الشرق الأوسط المرموقين وهو أستاذ دراسات الحرب بكلية كينجز كوليدج في لندن، وقد زار نيويورك في مايو/أيار 2008 وأجريت معه مناقشات مستفيضة حول كتابه. فريدمان حاول في كتابه أن يشرح كيف ولماذا فشلت الحكومات الأمريكية المتعاقبة بأن تسلك السلوك الصواب في الشرق الأوسط. وله وجهة نظر في المشاكل التي تواجهها أمريكا حالياً في المنطقة، ويرى أن لها أصولاً تاريخية، تبدأ من عام 1979 من عودة الدور الدبلوماسي الأمريكي إلى المنطقة بعد قمة كامب ديفيد التي أدت إلى معاهدة السلام بين مصر و"إسرائيل"، وثورة إيران الإسلامية التي أطاحت بالشاه، والغزو السوفييتي لأفغانستان، وتولي صدام حسين رئاسة العراق عام 1979. وحين وقعت صدمة الحادي عشر من سبتمبر، وإعلان واشنطن الحرب على الإرهاب، انفردت بتعريف ما هو الإرهاب، وتضييق حدوده فيما سمي “إرهاب إسلامي"، والتصرف إزاءه ليس كجريمة، وإنما كمنافس عسكري. ونحن نذكر كيف سارعت بعد تدخلها العسكري في العراق الى هدم مؤسسات الدولة، ما أوجد فراغاً ملأته الفوضى، التي جذبت إليها كل من له مصلحة في اللعب في جو الفوضى، فوجدت أمريكا نفسها أمام جبهات متعددة من الأعداء: إيران، والجماعات المسلحة على اختلاف انتماءاتها وأهدافها، وتنظيم القاعدة. النقطة التي استوقفتني في كتاب فريدمان في إطار موضوع البحث عن عدو، كانت حديثه عن أن الدرس المستخلص من تعدد الأعداء الذين أفرزتهم سياسة أمريكا في الشرق الأوسط، هو أن اختيار الأعداء فن وليس علماً، وهو درس تم ترحيله إلى الرئيس الأمريكي القادم. وبعد أن ألقى فريدمان الضوء على هذه المنطقة، وجذب إليها الاهتمام، فإنه لم يكن بعيداً عن مناقشات النخبة، السؤال: كيف يكون الاختيار الصائب للأعداء؟ والإجابة لم تكن غائبة عن كثير من هذه المناقشات، وشملت مايلي: 1- هناك اتفاق توصلت إليه جماعات من النخبة في مناقشات جرت منذ عام 2004 وحتى ،2007 وأكدته استطلاعات الرأي العام، على أن حكومة بوش ارتكبت خطأ استراتيجياً بتوصيف العدو بأنه التطرف الإسلامي، وأن هذا التوصيف لا يحدد ملامح مصدر تهديد للأمن القومي. فهو يتعامل مع ما هو ظاهر على السطح، من دون أن يستأصل جذوره، وأن الجذور هي الأسباب التي ولدت الإرهاب، ومن بينها غياب الديمقراطية. 2- إن حكومة بوش لجأت إلى قصر وجود العدو على الشرق الأوسط، وبالتحديد العالم العربي، وتحدث في هذا أقطاب المحافظين الجدد بالقول إن خطر المواجهة انتقل من على حدود العدو السوفييتي السابق إلى داخل هذه المنطقة، كما أشار بوش إلى هذا المعنى في أحد خطاباته عام ،2005 بأن الوضع الآن في هذه المنطقة يشبه الوضع في أوروبا أثناء الحرب الباردة، وبذلك صنفت هذه المنطقة على أنها موطن العدو. 3- إن أمريكا باحتلال العراق واستمراريته، وضعت نفسها في مواجهة مع شعوب ترفض الاحتلال، الذي كانت حركة تصفيته عالمياً في الخمسينات والستينات محل فخر واعتزاز هذه الشعوب بكرامتها الوطنية، وأن بعث الاحتلال من مرقده هو انتكاسة عالمية سياسياً وأخلاقياً. 4- ويبقى التحيز المطلق ل"إسرائيل" كأحد أبرز أسباب العداء لأمريكا، وعلى الرغم من أن بعض الساسة والمفكرين الأمريكيين يجاهرون برأيهم هذا، إلا أن الصحافة والإعلام المرئي ما زالا يفرضان قيوداً على ما يصور “إسرائيل" كدولة محتلة لأراضي غيرها، ولانتهاكها القانون الدولي وحقوق الإنسان، مع ذلك فإن انتشار الصحافة الإلكترونية وشبكات الإنترنت، صارت مصدراً زاخراً بالحقائق التي تكشف الصورة الحقيقية ل"إسرائيل"، وكيف أن الانحياز المطلق لها يلحق أخطر الضرر بالمصالح الحيوية للولايات المتحدة. إن أمريكا صارت تصنع عدوها بيدها، في عملية البحث عن عدو، والتي كان وراء الصياغات التي ظهرت بشأن توصيف جهة ما على أنها العدو أصحاب مصالح في شحن العقل الأمريكي إزاءه بمشاعر العداء، وربما كان هذا وراء اهتمامي بالنقطة التي توقفت عندها في كتاب “اختيار الأعداء"، كقضية لها أولوية عند الرئيس الأمريكي القادم. عن صحيفة الخليج الاماراتية 17/9/2008