تمر حياة الأمم بمراحل عمرية كحياة الأفراد تماماً بتمام، إذ تبدأ كل أمة حياتها بمرحلة الضعف والوهن، وهى في حياة الأفراد مثل مرحلة الطفولة الحابية المقلدة، وهى مرحلة "هالوكية" يعتمد فيها الصغير على الكبير، والضعيف على القوى من أجل التعلم، أو اكتساب الخبرة، أو استلهام فكرة التعامل مع مفردات الحياة، وفى هذا المضمار لا يعيب أحداً على الصغير الضعيف إذ ارتمى في أحضان الكبير حتى تقوى عظامه، ولو كان ذلك بشروط الطرف الأقوى حتى حين.
هذه سنة واقعية حياتية لها ما يبرر بقاءها في سلوك الأفراد والأمم، ولقد أردت من هذه المقدمة البسيطة إيجاد توطئة منطقية، ومدخلاً معقولاً لما يسمى ب"عقيدة التقليد"، والتي يستنكف بعضاً من الكتاب والمحللين عن الحوم حولها، ناهيك عن الخوض فيها، معتبرين أن ذلك إراقة لكرامة الضعفاء على أعتاب الأقوياء من أجل رشفة ماء، أو كسرة خبز، أو نظرة رضا، ومفسرين التقليد بأنه عقيدة الضعفاء فكرياً، أو ثقافياً، أو علمياً، أو....أو..... لكنى لا أفسر الأمر على هذا النحو المجافى لسياسة التكيف مع الواقع، بل والهروب من مواجهته، وابتكار صيغة ما للتعامل مع مجرياته، بل أنى أفسر الأمر من زاوية عملية واقعية متزنة ترفض أسلوب الاستكانة والاستسلام للأمر الواقع، كما ترفض التغني بالنعرات الجوفاء التي تدعو إلى حالة من التوقف للبحث عن طريق الآباء والأجداد، وفى ذات الوقت تتعامل مع الآخر بذكاء وفطنة من أجل الاستمرار بخطوات معقولة على درب المتحركين نحو مناطق أفضل، مع الحفاظ على المبدأ والهوية والشخصية كي لا تذوب كيانات داخل كيانات.
من هذا المنطلق فليس عيباً أن يتبنى الأفراد، أو تتبنى الأمم في مرحلة الضمور الفكري والعلمي والبحثي، وفى مرحلة الوهن الاقتصادي والإنتاجي فكرة التقليد الإيجابي، إذ أن هناك فرق بين تقليد لكي أعلم وأعمل، وربما أضيف بعد طول الممارسة أو اكتساب الخبرة، أو ربما يوحى إلى التقليد بفكرة جديدة، أو إنتاج جديد يتفق مع تركيبة المجتمع الثقافية والاجتماعية، وهذا نوع من التقليد أعتقد أنه مطلوب لأنه يقوم على أساس فكرة الانتقاء والغربلة والترشيح بهدف نقل الصالح وترك الطالح، ومن ثم فقد يكون مهماً في بعض مراحل الركود الفكري، والعلمي، والبحثي إتباع هذا الأسلوب، وهو ما يسمى نقل تجارب الغير، وقد نجح أفراد كما نجحت أمم بفضل إتباع هذه الطريقة الذكية في التعامل مع معطيات الواقع، وربما متغيراته المفروضة.
أما النوع الآخر، وهو التقليد السلبي أو الأعمى، الذي لا يراعى التركيبة العقلية والعقائدية للمجتمع، وذلك بأن ينقل كليات التجارب وجزيئاتها نقلاً حرفياً بلا فرز أو انتقاء، فهذا الأسلوب يحمل بين جنباته مخاطر طمس الهوية، وذوبان الكيانات الضعيفة داخل الكيانات القوية، وأظن أن عدداً ليس بالقليل من الكيانات الضعيفة قد انزلق إلى هذا المنحدر الخطير، إعجاباً وانبهاراً بالأقوياء، أو تكاسلاً في طلب العلم، وبذل العناية في مجالات البحث والاستنباط والاستدلال، وهؤلاء كمن تناول طعاماً جاهزاً في المطعم المجاور لأنه لا يملك الهمة والإرادة للطهي بين جدران بيته!!!.
إن التقليد بلا فهم أو تريث، هو دوران في فلك الغير بلا إرادة ولا وعى، وهو تحرك على مسرح الحياة وفقاً لإرادة الآخر، وهو طمس للهوية، ومحو للشخصية، كما أن التقليد الأعمى يضيق مساحات الابتكار بكافة مستوياته وأشكاله، فتتواجد حالة من اليأس والإحباط، ومن ثم تتواجد حالة من عدم الرضا على المستوى الفردي والجماعي، لأن التعبير عن الذات أكبر مجلبة للرضا عن النفس، وهو الأمر الضائع لدى من قلد وفقط. ولا زالت قصة الغراب الذي قلد الطاووس يوماً ماثلة في ذهني، فلا هو ترك نفسه غراباً كبقية الغربان ورضي بصورته وهيئته، ولا هو تعلم من الطاووس شيئاً، ولا هو استطاع أن يكون طاووساً، ولا أدرى إن كان هذا الغراب قد انتحر بعد ذلك أم لا؟!!!. ** مصر