بعد14 عاما.. ماذابقي من أوسلو؟ د. سمير غطاس قبل نحو أربعة عشر عاما, شهدت واشنطن في حديقة البيت الأبيض, وعلي نفس الطاولة التي جري عليها التوقيع من قبل علي اتفاقية كامب ديفيد, مراسم التوقيع علي اتفاق أوسلو في13 سبتمبر1993. ومنذ أن كشف النقاب عن هذا الجنين السياسي الذي تمخضت عنه اللقاءات السرية التي كانت احتضنتها العاصمة النرويجية أوسلو حتي تعرض هذا الاتفاق لحملة واسعة النطاق من الادانة والتنديد والتشهير, شاركت فيها عديد القوي من الجانبين الفلسطيني العربي والاسرائيلي. ففي الجانب العربي كان بادر إلي معارضة أوسلو طيف سياسي واسع يضم بالخصوص الاتجاهات اليسارية والتيار القومي والحركات الاسلامية. وبالمقابل, كان اتفاق أوسلو نفسه هدفا لحملة واسعة من المعارضة العنيفة التي قادتها علي الجبهة الاسرائيلية أحزاب اليمين الصهيوني القومي, والأحزاب الدينية وحركات المستوطنين اليهود, ووصلت هذه الحملة ذروتها بحادثة غير مسبوقة في تاريخ اسرائيل عندما جري اغتيال رئيس الوزراء اسحق رابين علي يد المتطرف الديني ايجال عمير في4 نوفمبر1995. وعلي الرغم من كل هذا الزخم الذي كان يميز هذه الحملات المعارضة لاتفاق أوسلو, التي ذكتها حتي بعض الدول الاقليمية في المنطقة, فإن أوسلو مع ذلك كله بقي صامدا, بل وتحول مع مرور الوقت إلي أمر واقع وإلي سقف سياسي يظل تحت سقفه المنخفض رؤوس العديد من القوي ممن أيدوه وممن عارضوه أو تحفظوا عليه. ويمكن أيضا أن نضيف إلي ذلك القول إنه رغم انتهاء العمر الافتراضي لاتفاقات أوسلو في1996/5/4, فإن أحدا لم يبادر أبدا إلي إلغاء هذه الاتفاقات رسميا, لا علي الصعيد الاسرائيلي ولا الفلسطيني. كانت الحكومة اليمينية التي شكلها الليكود برئاسة بنيامين نيتانياهو هي نفسها من اضطرت إلي تطبيق بروتوكول الخليل, وكان بيبي ووزير خارجيته في حينه شارون هما من التقيا مع عرفات في الواي ريفر في23 أكتوبر1998, ووافقا يومها, عملا باتفاق أوسلو, علي نقل حوالي13% من أراضي الضفة لسلطة عرفات, وعلي الجانب الآخر, كانت حماس والجبهتان الشعبية والديمقراطية وحزب الشعب, تحافظ علي معارضتهم بدرجات متفاوتة لأوسلو, لكنهم مع ذلك خاضوا الانتخابات الأخيرة في2006/1/25, وشاركوا في البرلمان الفلسطيني وفي الحكومة وفقا للقواعد التي انبثقت عن أوسلو, كما وافقت حماس بالذات في اتفاق مكة علي احترام كل الاتفاقات التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع اسرائيل, وهو ما يعني احترام اتفاق أوسلو بالذات وما تناسل عنه من سلسال طويل من الاتفاقات اللاحقة. وانطلاقا من هذه المناسبة, فإناإتفاقات أوسلو أدخلت المنطقة كلها في منعطف جديد تماما, وانها لاتزال, بعد مرور كل هذا الوقت, تطبع الكثير من تطورات هذه المنطقة بطابعها وبصماتها, وأن أوسلو يجب أن يحاكم في إطار الظروف التي أفرزته, وفي حدود انه اتفاق ثنائي علي ترتيبات الحكم الذاتي الفلسطيني خلال فترة انتقالية مدتها خمس سنوات. ولم يكن من بين المواد السبع عشرة لأوسلو أي مادة تنص علي وجوب إقامة دولة فلسطينية مستقلة, واقتصر الأمر في بنود المادة الخامسة فقط علي أن تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بما لايتعدي بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية, وأن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية بما فيها القدس, اللاجئون, المستوطنات او الترتيبات الأمنية, الحدود ومسائل أخري ذات الاهتمام المشترك. الموقف من أوسلو يحفل بمفارقات مدهشة, لأن قسما مهما من الذين عارضوا أوسلو هم في حقيقة الأمر أكثر من استفاد من هذا الاتفاق, بينما وصل الأمر بالذين وافقوا عليه إلي حد الكفر به, وباستثناء أبومازن, فإن عرفات كان وصل به الحال إلي حد القول في فبراير2000 إذا كان لكم اعتراض علي أوسلو فأنا لي مائة اعتراض, ومن جهته قال أوري سفير ابرز مهندسي أوسلو من الجانب الاسرائيلي في2007/8/20: هذا ليس اتفاقا مثاليا وتطبيقه أبعد ما يكون نموذجيا أو كاملا. أسوأ ما في أوسلو أنها خلقت بيئة ملوثة سمحت باقامة شراكة واسعة من الفساد والافساد بين مجموعات مرتزقة في السلطة الفلسطينية, وفي الجانب الاسرائيلي, وهو ما كان له انعكاسات مدمرة علي مجمل القضية الفلسطينية. وبرهنت التجربة الفلسطينية في ظل أوسلو, سواء أكانت تجربة فتح وعرفات, أو تجربة حماس في الوقت الراهن, انه لايمكن بأي حال الجمع بين السلطة المنبثقة عن أوسلو وقيادة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الاسرائيلي. إن تجربة السلطة الفلسطينية في أوسلو منذ انشائها وحتي الآن لم تتمكن, لأسباب عديدة, من اقناع مواطنيها أنفسهم أو العالم من حولهم بأنها قادرة حقا علي تحمل مسئولية تأسيس وادارة دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة وقادرة علي الحياة, وأن النقد الحقيقي الذي يجب أن يوجه إلي أوسلو هو أنها تكرس فلسفة ما يسمي التسوية المرحلية. ورغم التطورات النوعية التي تضمنتها خطة خريطة الطريق مقارنة بأوسلو فانها مع ذلك تنتمي إلي نفس مدرسة أوسلو وفلسفتها: التسوية المرحلية والحلول الانتقالية.. قد تأكد بما لا يدع مجالا لأي شك فشل وعبثية الاستمرار ومواصلة البحث عن سلام عن طريق مثل هذه المشاريع, لأن كل اتفاق مرحلي يتحول إلي محور للصراع في المفاوضات التالية, ويتحول كل اتفاق مرحلي لأنه منقوص ومعيب إلي مادة لتغذية التطرف في الجانبين, كما تسمح هذه الاتفاقات خاصة لاسرائيل بالتهرب من التزاماتها والتراجع عن المواعيد والتسويف والمماطلة, وتسريع الخطي لتغيير الأمر الواقع علي الأرض, بما يقطع الطريق ويحول عمليا دون التوصل إلي أي حل عادل ومتوازن في المستقبل. والمشكلة أن كل الأطراف لاتزال تواصل إدمان هذا النهج, ويندرج لقاء الخريف المزمع عقده في واشنطن في نوفمبر المقبل في نفس استراتيجية أوسلو: الحلول المؤقتة والتسوية المرحلية. والآن, بعد14 عاما علي أوسلو, فإنه ما لم ننجح في الانفصال عنه تماما, وما لم نقدر علي اعتماد استراتيجية أخري بديلة وجديدة, فإن أوسلو سيبقي حيا, وسيتأجل مرة أخري موعد إحالته إلي قاعة المومياوات في متحف التاريخ. عن صحيفة الاهرام المصرية 16/9/2007