ربما يقع في ذهن من يقرأ عنوان المقال أنى أقصد هذا العبث، أو ذاك اللوث الذي يحلو للبعض أن يسميه حباً أو عشقاً أو هياماً، وأنا في الحقيقة لا أعنى ذلك مطلقاً، إنما أعنى الحب بمعناه الحقيقي، والذي يبرز على نحو واضح إنسانية الإنسان، وارتقائه وسموه عن نزوات النفس وهمزات الشياطين، وهو يمارس حياته مشدوداً بين روح ومادة، وكذا الذي يجعل المرء يحيا في حالة سلام وطمأنينة مع نفسه والآخرين.
بالأمس الذي أدركت منه قسطاً يسيراً، كان الحب سفينة تُقلُّ قلوبنا على موج الحياة واثقة مطمئنة، غير عابئة بالأنواء والأهوال، فلا كان الموج يرهبها، ولا كانت العاصفة تزعجها، ولا كان الرعد أو البرق يعييها، إذ جمعت قلوبنا على معنى الحب المترفع عن أغراض الدنيا، بل وصهرت هذى القلوب ومزجتها في بوتقة واحدة، ولذلك لم تكسرنا عاصفة ولم تنل منا مصيبة، إذ كان البناء أقوى من كل ذلك.
ولقد كانت قلوبنا تقبض على دقائق العمر الجميلة كي لا ترحل من بين أيدينا فيرحل برحيلها كائن الحب الذي كان يرتع في قلوبنا، ويشع من عيوننا، ويجرى في دمائنا، وينساب من تصرفاتنا، وكأننا كنا نعلم أنها لحظات غالية ربما لن تعود، ولذلك ذقنا طعم الحياة بمعناها الحقيقي ونحن في ظل الحب الوارف نحيا بلا كراهية أو أنانية، فكان البيت الصغير يجمعنا، واللقمة الصغيرة تشبعنا، والطرفة المرتجلة تضحكنا.
ودارت الأيام دورتها، وتبدّل الإنسان والزمان والمكان، فانتكست في الأعين وفى القلوب كثيراً من المشاعر الجميلة، وتعرض الحب في قلوب الناس وبينهم إلى جيوش من عوامل التعرية، فتحول في القلوب إلى مجرد مسخ، وفى التصرفات إلى مجرد تكلف، بل وسُجَن الحب في حيز من الوقت عبر مناسبة أو قصيدة شعر لا يتعدى الأمر فيهما مجرد كلمات رنانة لا يتخطى تأثيرها ثغر من ألقاها.
ذلك لأن قيم المادة تدخلت في كل شيء، وأضحت معياراً لكل شيء، حتى المعاني والقيم الجميلة التي لا يجب أن تخضع لحكم المادة أخضعناها عنوة لسلطان المادة، وباتت علاقات البشر تُفسر بمنطق المنفعة أو المصلحة المشتركة، فأنت صديقي ما دامت لي عندك منفعة، فإذا وُجدت المنفعة وُجدت المحبة، وإذا انتهت..انتهت!!، وأسوأ شيء أن تسمع " إن الناس مصالح فإذا اجتمعت مصالحهم اجتمعوا، وإن تفرقت تفرقوا ".
وفى سباحة مضادة لمفهوم الحب الحقيقي أقمنا صروحاً واهية من علاقات اجتماعية، وأسسنا روابط هشة من وشائج أسرية انطلاقاً من مفاهيم منبثقة عن عشق المادة، بل وتقديس المادة وتقديمها على ما سواها في السواد من الأفعال، وما الزواج الذي يقوم على أوهام التكافؤ المادي إلا نموذجاً واحداً_من آلاف النماذج_ يفصح بجلاء عن موقف المجتمع المعادى لمقومات أخرى أكثر أهمية في بناء الحياة الزوجية، مثل الدين والأخلاق والحب.
وإذا كانت كل تجربة إنسانية تُقيّمُ بما حققته من إيجابيات، وما أفرزته من سلبيات، فلقد كان للارتماء في أحضان المادة والاحتكام إليها في إنشاء العلاقات بين أفراد المجتمع أكبر الأثر في تلاشى الحب، واعتباره أثراً من آثار الماضي، وما الأنانية المخيفة، والقسوة العنيفة التي انتابت معظم مظاهر الحياة إلا دليل دامغ على ضياع الحب بين البشر. فعلى صعيد الأسرة الواحدة تآكلت المادة البينية التي تربط الأخ بأبيه وأمه وأخيه، ومن ثم تباعدت المسافات، وانخفض مستوى التجاذب بين لبنات الأسرة، و دارت كل لبنة في فلك أهدافها الخاصة، وعاشت في جزيرة منعزلة عن باقي اللبنات، في مشهد يشرح على وجه لا يقبل الجدل حالة التباعد والتنافر بين أبناء الصلب الواحد والرحم الواحد..فما الذي فكك لبنات الأسرة وجعلها شتاتاً متناثراً..ليواجه كل منا نفسه بهذا السؤال؟.
إن الحب بين الناس منحة من الله لقلوب ذاقت حلاوة الإيمان بربها، بل إن الإسلام علق الإيمان على شرط المحبة بين المسلم وأخيه، قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".