لعبة الوقت في صراعات الشرق الأوسط؟! مكرم محمد أحمد يكاد يكون اللعب علي عنصر الوقت واحدا من السمات الأساسية لصراعات منطقة الشرق الأوسط, سواء في ذلك الصراع العربي الإسرائيلي, أو وجود القوات الأمريكية في العراق, أو الملف النووي الإيراني, وفي هذه القضايا الثلاث تسعي كل الأطراف المعنية علي اختلاف مواقفها الي استثمار عامل الوقت لصالحها, سواء تطلب هذا الصالح سرعة المضي في تنفيذ الاتفاقات المبرمة أو التعجيل بها أو تعويقها وتسويفها كل وفق حساباته. لكن عنصر الوقت يشكل في النهاية سلاحا خطيرا ذا حدين, يمكن أن يكون في صفك غدا, ويمكن أن يعمل ضدك بعد غد, لأن اللعب علي الوقت يعني ببساطة التسويف والتعويق والسعي الي التحلل من مسئوليات التنفيذ, ورفض الجداول الزمنية التي تحدد التزامات الأطراف المعنية, لكن كل ذلك يرتب في النهاية آثارا أخري أشد خطرا علي المدي المتوسط والبعيد تؤدي الي مضاعفات يصعب حساب نتائجها التي تكون عادة أشد كارثية وضررا.
ويسجل تاريخ التفاوض في صراعات الشرق الأوسط, أن الإسرائيليين كانوا أول من سعوا الي توظيف لعبة الوقت بهدف تعويق تنفيذ التزاماتهم في معظم الاتفاقات التي تم إبرامها, عندما رفض شيمون بيريز وهو وزير خارجية إسرائيل الالتزام بالجدول الزمني في تنفيذ خريطة الطريق, بدعوي أن التواريخ لا تحمل قداسة خاصة, ومن يومها دأبت سياسات إسرائيل في معالجة الصراع العربي الإسرائيلي علي التحلل من مسئولية تنفيذ أي اتفاق يتم ابرامه علي أمل أن يصيب القنوط واليأس الشعب الفلسطيني ويرضخ للأمر الواقع. أو يضطر الي خفض سقف مطالبه وأمانيه, أو تتمزق وحدة صفوفه في زحام التنظيمات الفلسطينية المتعددة في علاقاتها العقائدية والسياسية والتي تتنوع مرجعياتها الداخلية والخارجية, أو يفتر حماس المجتمع الدولي لضرورة تسوية هذا الصراع بدعوي أنه ليس أخطر صراعات المنطقة وليس أكثرها إلحاحا علي ضرورة الحل, لكن الهدف الأول والأساسي من سياسات التعويق والتسويف الإسرائيلية, إيجاد واقع جديد علي الأرض من خلال تغيير معالمه الجغرافية وطبيعته السكانية, بحيث تتمكن اسرائيل من فرض الحدود التي تريدها أمرا واقعا علي الأرض من خلال بناء الجدار العازل الذي يضم كل الكتل الاستيطانية الكبري في الضفة ويأكل مساحات ضخمة من أراضيها, أو الكتل الاستيطانية الجديدة التي تتواصل عملية بنائها دون اعتبار للقانون الدولي في الأماكن التي تريد إسرائيل الاحتفاظ بها, خصوصا حول القدسالشرقية التي يسعي الإسرائيليون الي عزلها وفصلها عن الضفة. بل إن خطط التعويق والتسويف الإسرائيلية التي يساندها عمل مستمر لتغيير الواقع الجغرافي والسكاني للمكان تستهدف الآن منع إقامة دولة فلسطينية ذات امتداد وتواصل جغرافي واحد, وهذا ما حدث بالفعل بعد أن تم فصل الضفة عن القطاع وتحول ما بقي من أراضي الضفة في أيدي الفلسطينيين الي جيوب منعزلة تفصلها الطرق الطولية والعرضية التي يمتنع علي الفلسطينيين استخدامها, والآن تخطط إسرائيل بعد أن تمكنت من عزل القدسالشرقية عن الضفة للتخلص من350 ألف فلسطيني يسكنون القدسالشرقية, يشكلون ثلث سكان القدس الكبري, بدعوي أنهم يمثلون خطرا دائما علي أمن إسرائيل يفرض عدم السماح لهم بحرية التنقل والحركة بعد أن لجأ اثنان من الفلسطينيين من سكان القدس إزاء الضغوط العنيفة اليومية التي تمارسها إسرائيل علي حياتهم الي اقتحام شوارع القدس بالبلدوزر في حادثين منفصلين, سقط فيهما عدد من القتلي والجرحي الإسرائيليين, كما تم تدمير عشرات السيارات في أهم شوارع القدس وأكثرها زحاما.. ومع الأسف يمضي المخطط الإسرائيلي في طريقه المرسوم مثل سكين يقطع قالبا من الزبد, بينما الفلسطينيون لاهون في صراعهم الداخلي لأن أكبر تنظيمين فلسطينيين ينشغلان بالاقتتال الأهلي صراعا علي جيفة السلطة, غير أن الحساب النهائي لعامل الوقت في قضية الصراع العربي الإسرائيلي يصف باليقين الي جوار الشعب الفلسطيني برغم محاولات اسرائيل ونجاحها في بناء أمر واقع جديد, لأنه في غضون عقود محدودة ربما لا تتجاوز ثلاثة عقود سوف تتغير المعادلة السكانية في الأرض المحتلة ليصبح الفلسطينيون مرة أخري أغلبية داخل إسرائيل وداخل القدس ذاتها, وتنتفي بالضرورة إمكان أن تصبح إسرائيل دولة محض يهودية ويصبح لزاما عليها كي تضمن سيطرتها علي الأرض والناس, أن تمارس كل صور التمييز العنصري رغما عن الشرعية والقانون الدولي في عصر لم يعد يقبل هذه السياسات, أو تقبل ما قبلت به حكومة جنوب إفريقيا العنصرية من قبل تحت ضغوط المجتمع الدولي ويصبح الفلسطينيون شركاء حقيقيين في الحكم تحت شعار صوت انتخابي واحد لكل مواطن بصرف النظر عن لونه أو دينه أو أرومته, وتتحقق نبوءة العقيد القذافي بقيام دولة إسراطين!.. وهذا ما أدركه شارون أبوالاستيطان قبل نهاية فترة حكمه وكان دافعه الأساسي للانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة, وورثه عنه ايهود أولمرت رئيس حزب كاديما ورئيس وزراء إسرائيل الآن, الذي حاول أن ينبه المجتمع الإسرائيلي لخطورة مأزقهم المصيري اذا ما أصروا علي استمرار احتلالهم للضفة والقدسالشرقية بسبب مضاعفات المشكلة السكانية وآثارها المؤكدة علي مستقبل إسرائيل. وكما رفض الإسرائيليون الالتزام بجدول زمني لتنفيذ خريطة الطريق, رفضت إدارة بوش الالتزام بجدول زمني لانسحاب القوات الأمريكية من العراق, علي أمل إلزام العراق القبول باتفاقية أمنية طويلة الأمد مع واشنطن, تقنن الوجود العسكري الدائم في العراق بعد انتهاء الفترة الزمنية لولاية القوات المتعددة الجنسيات, لكن إجماع العراقيين علي ضرورة انسحاب القوات الأمريكية في إطار جدول زمني قصير الأمد لا يتجاوز عامين, واعتبارهم الوجود العسكري الأمريكي احتلالا للعراق لايمكن قبوله أو التعايش معه, وكراهية غالبيتهم لوجود القوات الأمريكية التي تسببت في تدمير دولة العراق, وقتل ما يزيد علي650 ألف عراقي وفقا لتقديرات دراسة إحصائية لجامعة أمريكية ذائعة الصيت, وتقسيم العراق الي دويلات ثلاث ما يفرق بينها يزيد علي ما يجمعها, كل ذلك ألزم إدارة بوش أن تتحدث أخيرا وربما لأول مرة عن الأفق الزمني لوجود القوات الأمريكية في العراق, بما يؤكد ضرورة وجود سقف زمني لبقاء هذه القوات, الأمر الذي يلقي قبول غالبية الشعب الأمريكي الذي يدرك أن مغامرة غزو العراق تكاد تسفر عن هبوط الامبراطورية الأمريكيةالجديدة عن عرش هيمنتها المنفردة علي العالم, وأنها أثرت بالسلب علي الاقتصاد الأمريكي وتسببت في تراجع الدولار عن مركزه المتقدم علي كل العملات العالمية, فضلا عن الخسائر البشرية المتزايدة سواء في أعداد القتلي الذين يقاربون الآن4 آلاف أو في أعداد الجرحي والمعاقين التي جاوزت عشرات الآلاف. وعلي الجانب الآخر, لا يختلف كثيرا تعامل إيران في ملفها النووي مع عامل الوقت عن تعامل كل من إسرائيل وواشنطن, حيث تستخدم طهران كل مهاراتها في التسويف والمساومة من أجل كسب المزيد من الوقت, وإضعاف قدرة المجتمع الدولي علي الحسم السريع للملف النووي الإيراني, وكسر تصميم الدول الغربية علي فرض موعد محدد تلتزم به إيران كحد زمني لا يقبل التأجيل, ولهذه الأسباب اعتبر الأمريكيون الرد الإيراني الأخير الذي يطالب بإيضاحات جديدة لصفقة الحوافز التي اقترحتها المجموعة الأوروبية علي إيران مقابل تعليقها لعمليات تخصيب اليورانيوم مجرد محاولة للتعويق وتضييع الوقت, برغم الكلمات اللينة التي استخدمها الخطاب الإيراني, الذي يعد بالدخول في تفاوض مستمر اذا ما تلقت طهران الايضاحات المطلوبة, لكن الأمريكيين رفضوا الرد الإيراني واعتبروه محبطا, وطالبوا طهران بضرورة أن تقدم في أسرع وقت ممكن ردا واضحا محددا علي صفقة الحوافز يلتزم بالقبول أو الرفض بنعم أو لا, وإلا تعرضت إيران لوجبة رابعة من العقوبات الأكثر قسوة, تصدر عن مجلس الأمن لم يتم بعد تحديد طبيعتها, وان كانت التكهنات تدل علي أن وجبة العقوبات الرابعة يمكن أن تشمل فرض حظر التنقل علي عدد أكبر من الشخصيات الإيرانية ومصادرة أموالهم في الخارج ودفع شركات التأمين العالمية الي رفع كلفة التأمين علي الشحنات التي تذهب لإيران أو تخرج منها, وتعويق خطوط الملاحة العالمية الي إيران, وفرض المزيد من القيود علي الشركات الأمريكيةوالغربية لمنع تعاملها مع طهران.., وتحرص واشنطن انتظارا لصدور هذه القرارات عن مجلس الأمن علي الحفاظ علي وحدة الموقف الغربي والدولي علي أمل أن يساند المجتمع الدولي ضرورة فرض دورة رابعة من العقوبات علي إيران بعد أن قدم الغرب في صفقة حوافزه كل ما يستطيع من أجل استرضاء إيران دون محاولة المساس بكرامتها وكبريائها. لكن إيران تعرف علي وجه اليقين, أن مجموعة رابعة من العقوبات قد يصعب استصدارها من مجلس الأمن قبل بداية العام الجديد, بالنظر الي موسم اجازات الصيف التي يتبعها عادة اجتماعات الجمعية العامة في شهر سبتمبر, ثم مضاعفات انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تجري في نوفمبر.., وغاية ما تريده طهران من اللعب علي عامل الوقت أن تؤجل حسم الملف النووي الإيراني الي ما بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية لعلها تحصل علي شروط أفضل مع رئيس أمريكي جديد تمكنها من ادعاء تحقيق النصر, وقد يدخل ضمن حسابات طهران لعامل الوقت تأكيدات رئيس أركان حرب القوات الأمريكية الأخيرة بعدم استعداد واشنطن لفتح جبهة عسكرية ثالثة مع إيران, إضافة الي العراق وأفغانستان, وعدم حماس واشنطن والغرب عموما لضربة جوية منفردة تقوم بها إسرائيل لبعض المنشآت النووية الإيرانية ربما ترتب آثارا وخيمة في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع يصعب حصارها. غير أن عامل الوقت لا يعمل لصالح طهران علي طول الخط, لأنه في الوقت الذي تهدد فيه إيران بإغلاق مضيق هرمز ووقف امدادات البترول وتواصل مناوراتها العسكرية, في مياه الخليج, ويستمر الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في تحذيراته الخشنة التي يؤكد فيها رفض طهران التنازل قيد أنملة عن حقها في اكتساب المعرفة بتضييع دورة الوقود النووي, تقدم الولاياتالمتحدة والغرب صفقة حوافز سخية, تمكن طهران من استخدام التكنولوجيا النووية في توليد الطاقة الكهربائية, وتعدها بعدد من المفاعلات التي تعمل بالمياه الخفيفة, وتتعهد بمساعدتها علي تطوير البنية الأساسية لحقولها النفطية وتحديث أسطولها الجوي, وتنمية زراعاتها, فضلا عن اتاحة الفرصة أمام إيران كي تمارس دورا إقليميا أكبر في منطقة الخليج والشرق الأوسط, كي يظهر للرأي العام العالمي أن الغرب قد بذل غاية جهده لإرضاء طهران, لكنه يصطدم بعناد لا يبرره سوي رغبة إيران في مواصلة برنامجها النووي الذي يمكن أن يتحول الي برنامج عسكري, يمكنها من الحصول علي القنبلة النووية, وأن استخدام القوة في مرحلة لاحقة ضد طهران قد يصبح أمرا ضروريا بعد أن استنفدت الدول الغربية كل محاولات الوصول الي تسوية سلمية, وربما يدخل في حساب الأمريكيين أيضا أن إسرائيل لاتزال تحتاج الي برهة وقت كي تتمكن من تحصين دفاعاتها الجوية ضد صواريخ شهاب الإيرانية, ولعلها تنجح في محاولة فك التحالف السوري الإيراني من خلال صفقة مغرية تضع عودة الجولان الي سوريا في كفة وفض تحالفها مع إيران في الكفة الأخري.. ومع الأسف فإن الأمريكيين الذين يضيقون الآن ذرعا بتسويف طهران ومحاولتها كسب مزيد من الوقت يمارسون التسويف ذاته في معالجتهم لقضية الصراع العربي الإسرائيلي, ولكنها المعايير المزدوجة التي اعتادت عليها واشنطن, غير أن خلاصة القول الأخير, إن الوقت سلاح ذو حدين قد يكون في صالح طرف بعض الوقت, لكن يصعب أن يكون في صالحه كل الوقت. عن صحيفة الاهرام المصرية 9/8/2008