أزمة كركوك وهشاشة المعادلة العراقية أحمد سيد أحمد كشفت الأزمة الأخيرة لقانون انتخابات المحافظات العراقية عن هشاشة العملية السياسية, ومعضلة غياب اتفاق موحد بين أطياف الشعب العراقي الثلاثة السنة والشيعة والأكراد حول صيغة المستقبل السياسي الذي ينبغي أن يكون عليه العراق والذي يخرجه من مأزقه ويستعيد سيادته واستقلاله وتضمن تحقيق التعايش فيما بين أطرافه, فمشكلة كركوك التي تسببت في عرقلة قانون الانتخابات بعد أن أقره البرلمان في غيبة الكتلة الكردية ورفضه المجلس الرئاسي بحجة عدم دستوريته والتصويت عليه بصورة سرية, ما هي إلا انعكاس لأزمة الرؤية حول شكل النظام السياسي العراقي ومفهوم التعايش. وهل هو في إطار العراق الواحد الذي تحكمه الديمقراطية الحقيقية المرتكزة علي مبدأ المواطنة, التي تساوي بين العراقيين جميعا في الحقوق والواجبات بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية الطائفية واللغوية, أم هو العراق الموحد الذي يضم كيانات منفصلة متجاورة يسعي كل منها لتعظيم مصالحه وتوظيف هذه المرحلة الانتقالية لزيادة مكتسباته وتثبيتها, حتي وإن أفضي ذلك إلي استمرار الوضع غير الطبيعي الذي كرسه النظام السابق ومن ثم استمرار دوامة الصراع والعنف وبالتالي استمرار العراق في نفق المجهول؟ إن تفاعلات السنوات الخمس الماضية تؤكد أنها تسير نحو تعميق الخيار الثاني والذي قد يقود إلي الخيار الثالث في نهاية المطاف في إقامة ثلاث دويلات منفصلة, فالمعادلة السياسية, التي يغلفها الطابع الديمقراطي العلماني الشكلي, لاتزال حتي الآن تدار بمنطق المحاصصة الطائفية ومحاولة كل فريق إقامة تحالفاته الداخلية مع الطوائف الأخري, كما هو الحال في التحالف الرباعي الشيعي الكردي, والتحالف الثلاثي السني الكردي, أو الاعتماد علي الخارج, كما هو الحال في التحالف الشيعي الإيراني, من أجل إقامة وضع يعتقد أنه سيكون السائد مستقبلا, لكنه في الحقيقة يكرس المأزق الحالي. ولقد كشف قانون انتخابات المحافظات الغطاء عن تلك الحقيقة المرة, فأزمة كركوك يتم التعامل معها بهذا المنهج الطائفي, حيث يسعي الأكراد إلي استعادتها كعاصمة تاريخية لإقليم كردستان وتصحيح ما قام به النظام السابق من سياسات تعريب للمدينة بسبب ثرواتها النفطية الهائلة, ولذلك يريدون تنفيذ المادة140 من الدستور الذي أقر عام2005 وتدعو إلي تطبيع وضعها تمهيدا لإجراء استفتاء علي مصيرها, وهم يعلمون أن نتيجته ستكون لمصلحتهم, ولذلك رفضوا التصويت علي المادة24 من قانون الانتخابات الأخير التي فاضلت بين تأجيل الانتخابات في المدينة أو إجرائها وفقا لعدد من الدوائر الانتخابية تتضمن توزيع المقاعد بالتساوي بين العرب والأكراد والتركمان علي أساس عشرة مقاعد لكل طرف ومقعدين للمسيحيين, باعتباره الصيغة المثلي لتقاسم السلطة وتحقيق التعايش بين سكان المدينة في ظل اللحظة الحالية, وهي المادة التي مررها البرلمان ورفضها المجلس الرئاسي, وبالتالي تظل المشكلة لغما قابلا للانفجار مادام لم يتم التوصل إلي صيغة توفيقية بين جميع الأطراف, خاصة مع تداخل الأبعاد السياسية الإقليمية فيها من جانب تركيا وإيران. وفي الجانب الآخر لم يكن اعتراض الشيعة, ممثلين في نائب الرئيس عادل عبد المهدي, علي قانون الانتخابات تضامنا مع الموقف الكردي, وإنما اعتراض علي بعض مواد القانون التي تتعلق بالأقليات والمهجرين ونسبة تمثيل المرأة وحظر استخدام الشعارات الدينية في الحملات الانتخابية وحرمان أي كيان سياسي يملك ميليشيا مسلحة من المشاركة, إضافة لنظام القائمة المفتوحة الذي يغير شكل الخريطة السياسية, وكل هذا يشكل تهديدا لهيمنة الشيعة, خاصة التيار الديني علي العملية السياسية العراقية, وهذا أيضا يثير إشكالية عدم حسم هوية العراق وهل هو دولة ديمقراطية أم دولة دينية يحكمها رجال الدين من الباطن. غير أن المعضلة العراقية ليست فقط في ضبابية العملية السياسية واختلال ركائزها, بل لأن الأخيرة تسببت في استمرار معركة صراع السياسة والأمن الذي لم ينجح أي منهما حتي الآن في حسمه لمصلحته, برغم ما بذلته الحكومة العراقية ومعها القوات الأمريكية من جهود ومحاولات لمحاربة التنظيمات المسلحة خاصة تنظيم القاعدة, ونجحت إلي حد كبير في تحسين البيئة الأمنية, إلا أن دوامة العنف الطائفي لاتزال مستعرة يعكسها العدد الكبير من القتلي والجرحي يوميا, ويغذيها حالة الفوضي السياسية والأمنية التي جعلت العراق ساحة للأدوار الخارجية لتعبث فيها تحقيقا لمصالحها, ويساعدها استمرار الاحتلال الأجنبي الذي تتلاقي مصالحه معها في كثير من الأحيان, بعدما تبدلت أهدافه من إقامة عراق ديمقراطي إلي محاربة القاعدة والتي استدرجته بدورها إلي معركة طويلة الأمد غير معروفة النهاية. إن المخرج من المأزق العراقي, يتطلب أولا التخلي عن أسلوب الترميم في إدارة العملية السياسية ومنهج الطائفية واقتناص الفرص من جانب الأطراف الثلاثة لفرض سياسة الأمر الواقع, وثانيا إحداث تغيير استراتيجي حقيقي في مدخلات المعادلة العراقية ورؤية صحيحة تنطلق من الاقتناع بأن الكل خاسر في ظل استمرار الوضع الحالي أو أي وضع مختل قد ينشأ في المستقبل, وأن الحوار بين أبناء الوطن هو السبيل الوحيد لحل مشكلة كركوك ونزع فتيلها بطريقة تضمن التعايش بين طوائفها وتوظف نفطها لمصلحة العراق ككل, كذلك حسم الخلافات حول قانون الانتخابات في إطار الاتفاق علي طبيعة وشكل النظام السياسي ويحل إشكالية الديمقراطية والدولة الدينية وبعيدا عن الضغوط الأمريكية, والأهم إزالة التناقضات والألغام من الساحة العراقية وأبرزها استمرار الاحتلال الأجنبي, ووضع جدول زمني محدد للانسحاب يتزامن معه الإسراع في بناء مؤسسات الدولة خاصة الجيش والشرطة والتفرغ للتنمية وإعادة الإعمار وحل مشكلة البطالة والفساد الإداري والاقتصادي والقضاء علي الميليشيات المسلحة, وحل مشكلة اللاجئين, وبدون ذلك ستظل المعادلة السياسية الهشة قابلة للانهيار إذا ما فجرها لغم كركوك, خاصة بعد قرار برلمان حكومة كردستان بضم المدينة إلي الإقليم, وستظل المعضلة العراقية لأجل غير منظور. عن صحيفة الاهرام المصرية 5/8/2008