في ظل المتناقضات الجاثمة على صدر واقعنا المعاصر، تكاد النفس لا تدرك على وجه اليقين ماذا تريد، بمعنى أن علاقة الانسجام بين المرء ونفسه تبدو غائبة إلى مدى بعيد، بحيث يبدو الأمر وكأنه انفصام في الشخصية يُمَارس المرء على أثره أكثر من دور على مسرح الحياة، ويظهر أمام المجتمع بأكثر من وجه، ويتكلم بأكثر من لسان وطريقة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المضمار..لماذا يفقد الإنسان حالة التعايش والتكيف السلمي مع نفسه، أو لماذا لا يتسق ظاهر الإنسان مع باطنه، أو لماذا لا تنسجم أفعاله مع أقواله؟..
المؤكد أن هذه علامة استفهام عملاقة، يبدو التفكير في إزاحتها _بإجابة شافية مقنعة_ أمراً بالغ الصعوبة، وتحدياً بالغ التعقيد، فقد يكون الغوص في أعتى البحار وأعلاها موجاً وأشدها عاصفة وأبعدها قعراً شيئاً هيناً ومستطاعاً مناظرة بالغوص في نفوس البشر..!!.
فإن كان لا مفر من التعرض لتفتيت جزء من تلك العثرة التي تتنامى في واقعنا أمام أعين الكثيرين منا دون اكتراث أو اهتمام، فيجب التأكيد أولاً على أن النفس البشرية حينما تولد بميلاد صاحبها..تولد مثل الصفحة البيضاء النقية، ومن هذه اللحظة فكل ما تراه العين أو تسمعه الأذن أو تدركه الحواس يمثل نقشاً على صفحة النفس، يتبلور فيما بعد إلى عادة أو سلوك، ولذلك كانت التنشئة الأولى هي أخطر مرحلة يمر بها بناء النفس، وهو الأمر الذي يُقابل بحالة من الاستهتار داخل الأسرة وداخل المؤسسات التربوية والتعليمية التي تتعامل مع الأطفال، إذ يسود اعتقاد داخل أروقة المجتمع العربي تحديداً بأن الطفل في مراحله الأولى لا يُدرك ولا يعي ولا يفهم، وهى أكبر مصيبة نقع فيها ونحن لا ندرى.
إن كل البحوث العلمية تؤكد على أن الطفل في سنواته الأولى يكون أكثر قدرة على التقاط الأحداث بكل تفاصيلها وجزئياتها، حتى وإن لم يدرك، وهنا تكمن المشكلة، حيث يلتقط الطفل كل ما يعرض عليه من مواد سمعية أو بصرية بلا فرز أو تمييز، ثم يختزنها في ذاكرته على هيئة واحدة، وقد يجمع الطفل في ذاكرته بين الأمر ونقيضه، وهو لا يدرى أيهما صواب وأيهما خطأ لضعف حاسة الإدراك، حتى تأتى الفرصة ليعبر عن المخزون المعلوماتى القاطن بالعقل الباطن، والطفل عندئذٍ يواجه بثلاثة ردود أفعال حيال تصرفه، إما أن يلقى ترحيباً وتشجيعاً ويُثاب، وإما يلقى زجراً ونهراً ويُعاقب، وإما أن يُواجه بسلبيه فلا يُثاب ولا يُعاقب. وبنظرة تحليلية إلى ردود الفعل الثلاثة، يمكن القول بأن لكل واحد منها تداعياته الإيجابية أو السلبية على شخصية الطفل،
وهنا لن أتطرق إلى أسلوب المعالجة وتأثيراته، ولكن ألج مباشرة إلى نقطة مفصلية في هذا الموضوع، وهى افتقاد المنهجية العلمية في التوجيه والتربية، بحيث لا توجد خطوط عامة ثابتة يتم السير عليها في مواجهة سلوك الأطفال، إذ تخضع عملية التقويم غالباً للاجتهاد الشخصي أو العشوائية أو طريقة ( خالف تُعرف ) خاصة داخل البيوت، فما يلفظه الأب من سلوك أولاده ويُعَنفهم عليه ترحب به الأم وتُكافئهم عليه، فلأي معسكر سوف ينتمي الطفل؟!..كذلك ما يقوم الأب بإقراره من توجيهات يتم احترامها ما دام موجوداً، فإذا ما غاب كانت الأم أول من يضرب بهذه التوجيهات عرض الحائط، فكيف يعرف الطفل الصواب من الخطأ؟..
وهنا تبنى الأم وهى لا تدرى داخل طفلها عادات المراوغة والمخادعة، فيمارس الطفل حياته بوجهين..واحد أمام أبيه، وواحد أمام أمه..وبذلك تكون الأسرة قد جهزت للمجتمع شخصاً حائراً متردداً لا يعرف ماذا يريد؟. ولا يخفى على عين الفكر أن العادات المكتسبة تنمو وتتفرع وتتطور بنمو صاحبها، حتى تأخذ أشكالاً وألواناً متعددة، تكون تارة في شكل نفاق أو تملق، وتكون تارة في شكل خداع ومراوغة، وتكون تارة في شكل هروب من الواقع والحياة..الخ، حتى يكون من الصعب أن تضع توصيفاً لشخص تربى بمثل هذه الطريقة المرتجلة، لأنه يتلون بتلون الظروف والأحداث، ولا يكاد يثبت على وجه واحد وهو يتعامل مع المجتمع، وأحسب أن هذا الصنف هو النموذج المفضل لدى بعض الأيديولوجيات التي تبحث عن إنسان بلا شخصية ثابتة وبلا أهداف محددة، فستعمله كأداة مؤقتة لتحقيق بعض أهدافها قصيرة المدى.
إن تربية بغير منهج واضح المعالم، وبغير أسرة متفاهمة على إستراتيجية تربوية ثابتة يجمع عليها الأبوين، لهى آلية مناسبة لإنتاج أفراد بلا هوية وبلا هدف، لهى آلية مناسبة لإفراز أشخاص يحيون بلا اتزان أو اتساق مع أنفسهم، الأمر الذي يترتب عليه مباشرة ضياع هذه الاتساق بينهم وبين المجتمع الذي يحيون فيه، فيسلكون وهم لا يعملون مسالك تضر بالمجتمع، وباستقرار المجتمع.