لا ينام العربي مطمئنا إذا اضطربت المدينة وكان قائد الشرطة كرديا. يخاف على أمنه ولا يثق بالتدابير والتحقيقات. ولا ينام الكردي مطمئنا في تلك المدينة إذا كان قائد الشرطة عربيا. لا يثق التركماني المقيم في المدينة المضطربة بالتحقيقات إذا كان قائد الشرطة كرديا. هذا ما أقرأه بين سطور الاخبار كلما اضطربت كركوك المقيمة اصلا على خطوط التماس المزمنة بين القوميات واللغات والمذاهب ايضا. لا بد من الاعتراف بذكاء القاتل الذي هندس المذبحة التي شهدتها كركوك اول من امس. ففي شرايين هذه المدينة تنام براميل من البارود. آبار من المخاوف القديمة والمستجدة. خوف على الهوية والانتماء والسلامة والحقوق من دون ان ننسى ان كركوك تنام على النفط ايضاً. ثم ان التوقيت ملائم لإثارة النعرات. كان المتظاهرون الاكراد يحتجون على قانون انتخاب مجالس المحافظات حين تناثرت الجثث. قيل إن انتحارية انفجرت. وإن مناخ التوتر أدى الى تبادل للنار بين الغاضبين وحراس مقرات احزاب تركمانية. في الوقت نفسه كان يوم الانتحاريات يثمر مذبحة في بغداد وإن بدا وضع كركوك أشد خطورة. لكركوك موقع خاص في وجدان الاكراد. لا الكردي العادي يقبل التنازل عنها. ولا الزعيم يجرؤ او يستطيع. بينهم من يشبّه مطالبتهم بالتنازل عن كركوك بمطالبة الفلسطينيين بالتنازل عن القدس. هكذا ندخل في المناطق المحرمة حيث تستحيل التنازلات وتتعقد التسويات. وبين العرب والتركمان من يعتقد ان إلحاق كركوك باقليم كردستان يعني تجهيز الاقليم بمكونات الاستقلال ما يفتح الباب لتهديد وحدة العراق وتركيا معا. العودة الى اللوائح والارقام لا تحل المشكلة. ففي آخر احصاء عراقي اجري في 1957 تقدم عدد التركمان على الاكراد والعرب في مدينة كركوك في حين تقدم عدد الاكراد على العرب والتركمان في المنطقة التي تضم المدينة ومحيطها. بعد سقوط نظام صدام حسين تغيرت المعادلات السكانية. سارع الاكراد الى الرد على حملة التعريب القسرية التي تعرضت لها كركوك على يد نظام صدام. عادت جموع منهم الى المدينة ومحيطها واقامت حتى في الخيم ولم يسفر ارجاء البت في وضع المدينة الا عن تعزيز مطالبة الاكراد بالاعتراف بهويتها التي باتت تدعمها اكثرية عددية واضحة وعن تعزيز مخاوف العرب والتركمان من احتمال هجرة كركوك تدريجيا وفعليا من العراق الموحد الى اقليم كردستان. كانت عقدة كركوك دائمة الحضور في العلاقة بين اكراد العراق والسلطة في بغداد. العقدة نفسها سممت العلاقات بين المُلا مصطفى البارزاني وصدام حسين في السبعينات. ولأنها العقدة قرر صدام تغيير طبيعتها الى غير رجعة. هجّر اكراداً وزرع عرباً. كان يريد إفهام الاكراد ان الحلم بكركوك لم يعد مجديا او ممكنا. وبعد سقوط صدام وفي ظل العراق الجديد الفيديرالي ظلت عقدة كركوك حاضرة. ليس سهلا على من يحكم في بغداد السماح لكركوك بالهجرة الى اقليم كردستان. ليس سهلا على القيادات الكردية التسليم بأنه لم يبق للاكراد من كركوك غير "حق البكاء على كركوك". يصاب الصحافيون احيانا بأعراض البلدان التي يزورونها ويتابعون اخبارها وانهياراتها. انا ايضا اصابتني عقدة كركوك. ربما لأنها كشفت عطبا رئيسيا في ثقافتنا ومشاعرنا وذاكرتنا. كشفت هذا العجز عن قبول الآخر المختلف في القرية او المدينة او الدولة. في المدرسة والمقهى والشارع. لهذا كانت كركوك تزورني كلما اشتعلت في هذا العالم العربي احداث طائفية او فتنة مذهبية وإن غاب عنها بعد التصادم بين القوميات. كلما ظهرت ميول تفضّل النحر والانتحار على الرقص مع جار لا يشبهنا ويرفض التنازل عن ملامحه لنعطيه الأمان. انها مدرسة الفكر الواحد واللون الواحد واحتكار الحقيقة ورفض كل سؤال او تساؤل او اختلاف. ان الاسئلة المطروحة في كركوك مطروحة ايضا في اماكن اخرى كثيرة. ان عدم القبول بالآخر واحترام حقه في الاختلاف ينذر بتفخيخ المستقبل العربي بألف كركوك وكركوك.