الإخوان المسلمون الأردنيون والحكومة: إستقرار الأردن هو البوصلة الضابطة خالد الحروب التوتر المتصاعد بين الحكومة الإردنية وجماعة الإخوان المسلمين (وحزبها جبهة العمل الإسلامي) قد تكون له إنعكاسات خطيرة على أكثر من صعيد، وقد يهدد الحميمية الخاصة التي وسمت العلاقة بين الإخوان والدولة الأردنية خلال نصف القرن الماضي أو أزيد. مستوى الإتهامات المتبادلة وصل حدا منذراً بخطر حقيقي، خاصة بعد إنسحاب الإخوان من الإنتخابات البلدية وإتهامهم الحكومة بتزويرها عن طريق دفع الجيش للتصويت لصالح المرشحين القريبين من الحكومة. ثم تلا ذلك أتهام رئيس الوزراء للإخوان بأن معارضتهم تجاوزت الحكومة وصارت تطال الدولة وكيانها السياسي، وأنهم بذلك يهيئون مناخات متطرفة في الأردن. يحدث هذا والأردن على أبواب انتخابات برلمانية قريبة، في تشرين الثاني (نوفمبر) القادم، وفي ظل وضع إقليمي متوتر للغاية، حيث تحيط حالات اللاإستقرار بالأردن من كل جانب: العراق، فلسطين، لبنان، وإلى حد ما سورية. نجاح الأردن في الإفلات من طوق الأزمات الذي يحيق به من كل جانب والمحافظة على أمن وإستقرار بارزين هو البوصلة التي يجب على الإخوان والحكومة أن ينقادا لها. وأن يظل الأردن رئة لفلسطين والعراق وللبنان، يرتحل إليه ويطمئن فيه الناس هو إنجاز كبير ونعمة لا يبدو أن كثيرين يقدرونها في الأردن، بما في ذلك بعض سياسيه وقادة أحزابه. أن ينطلق الناس إلى أعمالهم في الصباح ويذهب التلاميذ إلى مدارسهم وتفتح الأسواق أبوابها من دون الخوف من تفجير هنا وعملية إرهابية هناك صار من الأشياء العزيزة في الفضاء الجغرافي المحيط بالأردن. وعلى الأردنيين، مرة أخرى، أن يعضوا على الأمن والإستقرار بنواجذهم ويدافعوا عن ذلك بكل ما يملكون، وأن يكون هذين الأمرين هما الهم الذي يحكم صوغ السياسات الحكومية والحزبية في آن معاً. يُساق هذا الكلام، ربما البدهي في الأوقات العادية، لتتأمله قيادات الإسلاميين في الأردن، ولتتأمله الحكومة الأردنية وكل الأطراف النافذة في صناعة القرار. ليس هناك أي هامش يتيح ترف اللعب والتلاعب بما استقر عليه الوضع في الأردن، لأن أي بديل سيضع الأردن على سكة الدول المجاورة، أي سكة العنف المجهول والذي لا نهاية له. على الإخوان المسلمين في الأردن أن يعضوا على جراحهم إن رأوا أنهم ظلموا وأن تزويراً حدث في الإنتخابات البلدية. وعليهم أن يضحوا باي مكسب حزبي عندما تتراءى في الأفق القريب غيوم سيناريوهات سوداء لا يعرف أحد مقدار السموم التي قد تمطرها. لكن على الحكومة الأردنية أيضاً أن تتعقل بدورها وأن لا تدفع الأمور إلى مزيد من التصعيد، خاصة على أبواب الإنتخابات البرلمانية. دفع الإخوان إلى خارج اللعبة السياسية، وإعادتهم إلى العمل السري تحت الأرض هو تراجع كبير لا يتحمله الأردن الآن، ويوفر لتيارات وجماعات التطرف فرصة ذهبية لتجنيد عناصر جاهزة من الإخوان وغسل عقولهم وفق أجندات راديكالية. تنفيس التوتر الإخواني-الحكومي إذن هو أولوية ملحة الآن ويتطلب تدخل القصر لأعادة أمور العلاقة الخاصة إلى سابق عهدها، ولإحتوائها في سياق تنازلات متبادلة وضمن تفاهمات متوافق عليها تحدد حجم النفوذ السياسي للإخوان، وتمنحهم مساحات التحرك في المقابل. في ماضي العلاقة الطويل بين الإخوان والدولة الأردنية كانت المقايضات السياسية الذكية بين الطرفين هي التي حددت أطر العلاقة، وساهمت كثيراً في إستقرار الأردن وإبعاده عن تيارات التطرف الإسلاموي. وفي مرحلة ما بعد الديموقراطية تعرضت تلك المقايضات لهزات كبيرة، فمن ناحية إغتر الأخوان بالشعبية الديموقراطية التي تُرجمت بنجاحات كبيرة في الإنتخابات، وظنوا أنه بالإمكان إدارة الظهر لتلك التفاهمات التقليدية والمضي إلى أبعد مدى ديموقراطيا. ومن ناحية ثانية توترت الحكومات الأردنية المتلاحقة إزاء التنامي المتزايد لقوة الإسلاميين وأرتبكت في كيفية التعامل معهم، في ضوء الغموض الذي لحق بتلك التفاهمات، وبالتوازي مع التطورات الإقليمية الحادة خاصة في فلسطين والعراق وتأثيراتها على الأردن ومعادلاته الداخلية. لكن خلال المرحلة الديموقراطية فات إسلاميي الأردن أمران، كانا قد فاتا أيضا إسلاميي دول عربية أخرى كثيرة. الأمر الأول هو السياق الإقليمي والدولي ومدى إستعداده، بل سماحه، لهم بأن يتمددوا من دون ضوابط ذاتية مساقين بوهم الدمقرطة غير المقيدة. والأمر الثاني أن شعبيتهم فاقت وتجاوزت بمراحل عديدة مستوى إستعدادهم السياسي لتقديم بديل على مستوى الحكم أو الحكومة. ليس هناك أي تجربة عربية قدم فيها الإسلاميون نموذجاً أنجح من النماذج التي عارضوها وأحياناً رفعوا السلاح ضدها (من مصر، إلى الجزائر، إلى السودان، وإلى فلسطين). والنموذج التركي الذي يتقرب إليه كثير من الإسلاميين العرب هو عملياً أقرب إلى الحكومات العربية منه إلى الإسلاميين. فهذا النموذج، ومن ناحية أيديولوجية، ملتزم بتكريس العلمانية كإطار عام للتسيس التركي ويدافع عنها عند كل إنعطافة سياسية، وهذا الإلتزم غير المتردد بالعلمانية لا يمكن أن يلتزم به الإسلاميون العرب. أما من ناحية سياسية فإن «إسلاميي تركيا» متحالفون مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومتساوقون مع سياستها في إطرها العامة في المنطقة، وهو أمر تشكل معارضته أحد أقانيم سياسات الإسلام السياسي العربي، بما في ذلك إخوان الأردن. ومع ذلك من المهم القول ان تجربة إسلاميي الأردن وتجربة الأردن الديموقراطية على كل ما فيها من مثالب ونواقص تظل تجربة في غاية الأهمية في النطاق العربي، ويجب الحفاظ عليها وتطويرها. فهي مع تجربة اليمن، والكويت، والمغرب التجارب شبه الوحيدة التي تشارك من خلالها حركات الإسلام السياسي في العملية السياسية من دون عنف أو دماء. بدائل هذه التجارب رأيناها في مصر، والجزائر، وسورية، وتونس، والسودان، وغيرها. تجربة الأردن هي خيار الإعتدال العام، إن من الدولة أو الإسلاميين، وتعثرها يعني التطرف وتقديم مسوغ للناقمين على الأردن والمتربصين به وبتجربته. وعلى الجانب الرسمي تعلم الحكومة أن سيطرة الإخوان على الشارع الإسلامي، الشبابي خاصة، هو الذي حال دون قيام تنظيمات متطرفة، قاعدية أو بن لادنية التوجه، وهذه الفضيلة للإخوان في الأردن لا ينكرها أحد. أما على الجانب الإخواني نفسه فهناك حاجة ماسة لتقدير الوضع الدقيق للأردن إقليميا، وكذلك لإدراج التوترات والإصطفافات الإقليمية في حسابات الإخوان وقراراتهم الداخلية. فالمنطقة الآن منقسمة بين محور إعتدال ومحور تشدد، والخيار السياسي التقليدي والتاريخي للأردن هو الإندماج في سياق الإعتدال. ففي التحليل الأخير لصناع القرار في الأردن وفر هذا الإعتدال والتموضع فيه على الأردن الدخول في مغامرات ومخاطر قد تكون أودت بإستقرار البلد ونظامه السياسي. بينما يتجه الخيار السياسي للإخوان المسلمين هو التعاطف و تأييد محور التشدد، ومن هنا التناقض الكبير في الخيارات السياسية والذي ينتج عنه توترات على كل المستويات. ومن أهم وأخطر تلك المستويات هو مدى وعمق علاقة الإخوان المسلمين بالملف الفلسطيني/الحمساوي، وما يترتب عليه من حساسيات وإنعكاسات على الساحة الداخلية الأردنية. وهذا الأمر عموماً يثير أعصاب الحكومة ويقلل من هامش تسامحها مع الإخوان، ويدفعها لمواصلة رفع علامة الإستفهام حول مدى وعمق الأولوية التي يوليها الإخوان لإستقرار الدولة الأردنية وأمنها. ثمة، إذن، تغييرات هيكلية وإقليمية تراكمت في العقدين الماضيين أصبحت تهدد نسق التفاهمات التقليدية بين النظام في الأردن والإخوان المسلمون، وقد حان الوقت للشروع في إستيعابها وإمتصاصها وإعادة الفاعلية للتفاهمات التقليدية. فالإخوان، والأردن بطبيعة الحال، لا يتحركان في فضاء حر وخال من المحددات الإقليمية، وأي توجه وقرار داخلي من حجم ترسيم العلاقة بين الحكومة والإخوان تكون له منعكسات خارجية، أو يكون متأثراً بعوامل خارجية. وهنا أيضاً على الإخوان من جهتهم أن يدركوا حدود مسألة الدمقرطة في الأردن، وذلك في ضوء الإطار الزمني الراهن والقيود السياسية الإقليمية والديموغرافية الداخلية (المرتبطة بمستبقل حل القضية الفلسطينية). يكون الإخوان حالمين إلى أقصى مدى إن ظنوا أن الخيار الديموقراطي في الأردن لا قيود له أو عليه. وتكون الحكومة حالمة أيضاً إن ظنت أن الخيار الديموقراطي في الأردن يمكن أن يستديم من دون مساهمة الإخوان فيه ومشاركتهم. لكن أهم من هذا وذاك أن المحافظة على إستقرار الأردن وإعتبار هذا الإستقرار هو البوصلة التي تضبط السياسة الحكومية والإخوانية معاً، والذي لأجله يجب أن يتم التنازل عن أية مكتسبات حزبية إخوانية أو حكومية تكتيكية. وهذا الإستقرار، في أكثر من جانب فيه، ساهم في بنائه إستمرار الزواج الكاثوليكي بين الإخوان والدولة الأردنية، وهو زواج في مصلحة الإثنين، وفي مصلحة الأردن، ولا فكاك منه في المستوى المنظور. لكن هذا الزواج بات يحتاج الآن لإعادة ضخ نبض الحياة فيه، وهذا هو الدور الذي لا يمكن أن يقوم به أحد في الأردن سوى مؤسسة القصر. عن صحيفة الحياة 15/8/2007