ليسمح لي القراء الأعزاء. فأنا أريد أن أكتب عن كرة القدم، وأن أقف عند الحدث الجميل بفوز العراق ببطولة آسيا. وأرجو ألا ينزعج أحد، فأنا لن اكتب عن الجوانب الفنية ولا عن طرق اللعب ولا عن أخطاء التحكيم ولا غير ذلك مما يدخل في اختصاص زملائنا من النقاد الرياضيين، ولكنني أريد أن أطل على الحدث من جوانب أخرى تتعلق بالسياسة والوطن، منطلقاً من مقاعد الدرجة الثالثة التي يجلس فيها قرابة 300 مليون مواطن عربي.
ولقد تحدث العديد من الزملاء في كل الأقطار العربية عن الحدث الرياضي الكبير باعتباره تجسيداً لإرادة الحياة عند أشقائنا في العراق، وباعتباره صورة للحقيقة الغائبة وسط الدمار والقتل اللذين أشاعهما الغزو الأميركي.. حقيقة الوحدة الوطنية التي جمعت الأشقاء في العراق منذ أن نشأت دولتهم الحديثة. والتي لم تفرق بين مسلم ومسيحي، ولا بين شيعي وسني، والتي جمعت العرب والأكراد والتركمان وغيرهم في سبيكة وطنية أغنت العراق وجعلته أكثر ثراء بتنوعه وائتلافه.
ولن أضيف إلى ما قيل في هذا الشأن، ولكني أضع بعض النقاط التي ينبغي أن نتوقف عندها حتى لا يتحول الحدث إلى مجرد مناسبة نتناساها بعد حين، بدلاً من أن يتحول إلى تجربة نستقطر أجمل ما فيها لنبني عليه ونحاول الإمساك به وتفعيله.
وأبدأ من بعيد.. فقبل أيام من الحدث الرياضي الجميل بفوز العراق ببطولة آسيا لكرة القدم، كانت البعثة المصرية قد عادت من الجزائر وهي تحمل بطولة دورة الألعاب الإفريقية، وكان بعض الزملاء من الصحافيين المرافقين للبعثة يتحدثون عن بعض المتاعب والمضايقات التي حدثت في بعض الأحيان وتم تداركها، وكان البعض يبدي خشيته من أن تنعكس الخلافات العربية كالعادة على دورة الألعاب العربية التي تستضيفها مصر بعد شهور.
وكنت أقول للزملاء لا تخشوا شيئاً، فما يحدث أمر طبيعي في منافسات مثل تلك، ولا أظن أن الأمر يزيد عما يحدث بين جماهير الأهلي والزمالك في مصر، أو بين أي ناديين متنافسين على الصدارة في أي بلد عربي. والخطأ لا يحدث من اللاعبين فكلهم أصدقاء في الملاعب وخارجها، ولا من الجماهير الطيبة، وإنما من المسؤولين الذين يريدون فرض أجندات سياسية أو مذهبية أو حتى نفعية على المنافسات الرياضية، وهؤلاء يمكن حصارهم ليس بإلغاء المنافسات العربية العربية وإنما بالإكثار منها، وبالضغط المستمر حتى يقوم بالإعلام العربي بدوره كاملاً في هذا المجال بعيداً عن العصبيات المحلية.
وأظن أن الحدث الأخير يعطينا مثالاً على حقيقة مشاعر الجماهير العربية في كل مكان، وبالتالي يجعل مسؤولية الإعلام العربي أكبر في كيفية الحفاظ على هذا الروح دائما. فالفرحة التي اجتاحت كل الأوساط العربية بوصول فريقين عربيين إلى نهائي البطولة، كانت رائعة حتى من الدول التي خرجت فرقها من الأدوار التمهيدية، وسلوك الفريقين في المباراة النهائية كان مثالياً.
والفرحة العارمة بفوز العراق لم تكن وبأي حال انتقاصاً من جهد الفريق السعودي الشاب الذي حقق إنجازاً بوصوله للنهائي، ولكن التعاطف مع العراق المنكوب في محنته كان حاضراً، والإحساس بحاجة شعبنا في العراق للحظات من الفرح وسط المأساة كان طاغياً، والإعجاب بإصرار الفريق العراقي وأدائه الجميل كان كبيرا.
ينقلنا ذلك إلى تساؤل لابد أن يثور. فهذه هي المرة الأولى التي يفوز فيها العراق بالبطولة بعد سنوات طويلة من المشاركة كان فيها مستوى الفرق الآسيوية غير العربية أكثر تواضعاً، وكانت كل الإمكانيات الفنية والمادية متوافرة للفريق العراقي ومع ذلك لم يستطيع أن يحقق البطولة، ثم يأتي الفريق هذه المرة وسط ظروف المأساة التي يعيشها العراق الحبيب، حيث الرياضة الوحيدة التي تتم ممارستها في الداخل هي القتل، وحيث تتحول الملاعب إلى مدافن للشهداء أو إلى ساحات للدبابات، فتتحقق المعجزة ويفوز بالبطولة.
صحيح أن عدداً كبيراً من اللاعبين يحترفون في الخارج. ولكن الصحيح أيضا أن تجميعهم معاً أمر غاية في الصعوبة، وتوفير ملعب للتدريب خارج العراق أمر صعب أيضا، والموارد المالية شحيحة، والمدرب الأجنبي جاءوا به قبل أسابيع من البطولة، ولعله لم يعرف أسماء اللاعبين الصحيحة حتى نهايتها! ولا أظن أن أحداً في العراق أو خارجه كان يحلم بأكثر من الوصول إلى الأدوار النهائية والخروج بشرف، ومع ذلك تحققت المعجزة وجاءت البطولة لتطرح السؤال:
هل تعودنا نحن العرب أن نبرز أحسن ما فينا عند التحدي وفي المواقف الصعبة، فإذا عدنا إلى الأوضاع الطبيعية تراجع الأداء وارتضينا بالحد الأدنى من الإنجاز؟ وهل يعود ذلك إلى أننا في الأوقات العادية نفتقر إلى روح الفريق فإذا جاءت الأزمة وجدنا أنفسنا في حاجة إلى التآزر لنتجاوزها؟ ثم.. كيف نحقق المعجزة الثانية بأن نستطيع على الدوام وفي الأوقات الطبيعية أن نحقق الأفضل والأحسن وكأننا في تحد دائم ولا أقول أزمة دائمة؟
ليس فقط هذا التآخي الجميل في الملعب بين لاعبي الفريق العراقي ممن يحاول البعض توزيعهم على سنة وشيعة وأكراد، ولكن أيضا هذه الفرحة العارمة التي عمت الشارع العراقي من الجنوب إلى الوسط إلى الشمال.. كلهم انطووا تحت علم العراق الذي تجري المؤامرات على قدم وساق لتقسيمه.
ألا يعني ذلك أن الجوهر الأصيل لشعبنا الشقيق في العراق هو الوحدة الوطنية التي تضم كل مكوناته العرقية والطائفية؟ ألا يسقط ذلك تلك الدعاوى التي تقول: أقبلوا احتلالنا وإذلالنا لكم، لأننا لو تركناكم فستقتلون بعضكم؟ إن من يقولون ذلك من قوى الاحتلال وأنصارهم وعملائهم يتجاهلون أنهم هم الذين زرعوا هذا الواقع المأساوي.
وأن العراق قبلهم كان قد حقق درجة كبيرة من التآخي بين كل طوائفه، وان العراقيين قادرون بعد رحيل الاحتلال على ضرب قوى الإرهاب التي جاءت مع الاحتلال، وأن قوى المقاومة الشريفة التي وقفت ضد الاحتلال قادرة على سحق قوى الإرهاب وإعادة الروح الوطنية لتحكم العراق الموحد.
طبعاً الأوضاع صعبة للغاية، والمستقبل محفوف بالمخاطر في ظل صراعات رهيبة على مستقبل المنطقة، وفي ظل حضور قوى إقليمية ودولية تبحث عن مصالحها لا مصلحة العراق، وفي ظل غياب عربي لا يمكن ان يستمر لأن نتيجته ستكون مدمرة في الوطن العربي كله، ومع ذلك يمنحنا ما حدث من رد فعل على إنجاز رياضي أسعد العراقيين جميعاً أن نحاول الإمساك باللحظة لنقول: إن هذا هو جوهر الشعب العراقي الواحد. قد تمثله المقاومة ولكن لا يمثله الإرهاب.
قد يعبث به العملاء والمتسترون وراء انتماءات طائفية أو عرقية ليقودوه نحو الحرب الأهلية، ولكنه في ساعة الحقيقة يعود إلى ما كان عليه. وقد تنجر طوائفه وراء هذه التقسيمات التي تفرض على دولة بعد أن يتم تفكيكها، وعلى شعب بعد ان يتم خداعه بأحاديث الديمقراطية الزائفة والولاءات الطائفية المشبوهة، ليجد في النهاية هذا الحصاد المرير الذي لن يستطيع مواجهته إلا إذا تمسك بالحقيقة الأساسية في وجوده على أرض العراق، وهي الوحدة الوطنية تحت علم العراق الواحد.
وبعيداً عن التعقيدات السياسية، واستغلالاً لهذه الروح النبيلة التي سادت الوطن العربي كله فرحاً بإنجاز شباب العراق ورغم الظروف الصعبة، فإن المنطق يطرح علينا جميعاً مسؤولية التواصل والدعم لشعبنا في العراق بكل طوائفه، بعيداً عن رئيس وزراء يهدد بتسليح الشيعة، ومسؤولين أكراد يطلبون كركوك أو الحرب الأهلية، وزعماء سنة يطلبون السلاح ليواجهوا ميليشيات الشيعة وإرهابيي القاعدة معاً.. بعيداً عن كل ذلك مطلوب خطة عربية للتواصل مع فئات الشعب العراقي كله في الداخل وفي الخارج أيضا..
فلدينا مليونان من اللاجئين في الخارج واكثر منهم في الداخل، ولا شك ان المسؤولية تقع على الولاياتالمتحدة الأميركية وينبغي ان يكون هناك قرار عربي رسمي بذلك، ولكن هذا لا ينبغي ان يعطل الدعم العربي لأشقائنا في العراق، لأن غيرنا لا ينتظر ويقيم علاقات ومصالح على الأرض ستظل لها آثارها الخطيرة بعد زوال الاحتلال.
ودعونا نعود للحدث في حد ذاته ونحاول التعامل معه عربياً بتنظيم جولة للفريق العربي يلعب فيها في اكبر عدد من العواصم العربية تحت علم العراق الموحد، وأظن ان المسؤولين في دولة الإمارات لن يمانعوا أبداً في تمويل مثل هذه الجولة، وان الأندية العربية التي يلعب لها بعض نجوم الفريق العراقي ستقدم كل التسهيلات ليشارك النجوم في هذه الجولة.
فإذا تعذر ذلك فليكن الموعد هو الدورة العربية القادمة، ولتكن مشاركة العراق فيها مشاركة كاملة، ولنقدم من الآن الدعم اللازم لتجهيز كل الفرق العراقية في كل اللعبات، سواء بتوفير التدريب في الملاعب العربية أو توفير الإمكانيات والمدربين. وأثق مرة أخرى في أن المسؤولين في دولة الإمارات حاضرون كما عودونا لهذا العمل النبيل، كما هم حاضرون لدعم الشعب العراقي الشقيق في كافة المجالات.
المهم أن نمسك باللحظة التي توحد فيها الأشقاء في العراق الحبيب، وان نبني عليها، وان نقرأ فيها الحقيقة التي لم تفلح في دفنها أنهار الدماء ولا الواقع المأساوي، أو المستقبل الذي يتم اغتياله. حقيقة شعب لم ينس وحدته الوطنية، ويدرك أنها وحدها القادرة على ان تجعله يعيد صنع الحياة من قلب الموت والمأساة.. عن صحيفة البيان الاماراتية 5/8/2007