من بائع متجول إلى زعيم كبير رجاء النقاش عندما نتابع سيرة الزعيم التركي رجب طيب أردوغان نجد أنه قد وصل إلى الزعامة والرئاسة في تركيا بعد أن سار في طريق طويل وشاق، فقد نشأ أردوغان في بيئة فقيرة جدا، واضطر وهو صبي صغير أن يعمل في شوارع استنبول، يبيع فيها المشروبات وبعض المأكولات، ولكنه لم يهمل الدراسة، فدخل إحدى المدارس المهتمة بالعلوم الإسلامية، ثم حصل على درجة جامعية في الإدارة من جامعة «مرمرة»، وانضم بعد ذلك إلى حزب «الرفاه الإسلامي» الذي كان يقوده الزعيم التركي «نجم الدين أربكان»، وقد وصل حزب أربكان إلى السلطة، ولكن الجيش كان له بالمرصاد، فقد كان أربكان واضحا في نزعته الإسلامية القوية، وهو الأمر الذي يخشاه الجيش، فالجيش هو حارس مبادئ مصطفى كمال أتاتورك، ومن أهم هذه المبادئ فصل الدين عن الدولة، وقد خشي الجيش من أربكان الذي كان يهدف إلى قلب المعادلة القائمة على مبادئ مصطفى كمال، أى أن يجعل السياسة خاضعة للتفكير الديني والمبادئ الإسلامية، ولذلك تم حل حزب «الرفاه» سنة 1998، وأصبح محظورا على هذا الحزب وأعضائه العمل بالسياسة. استطاع «أردوغان» بعد ذلك أن ينزع نفسه من عباءة «أربكان» وأن ينطلق في عمله السياسي، تسعى إلى منع اصطدام الدين بالدولة، وتسعى أيضا إلى إزالة المخاوف من الإسلام بين أنصار مصطفى كمال ودولته المدنية غير الدينية، وقد نجح أردوغان في تحقيق هذا الهدف نجاحا واضحا، فقد استمرت الدولة التركية دولة مدنية، ولكن الشعب التركي استمر هو أيضا شعبا مسلما أزيلت من طريقه قيود كانت تمنعه من إظهار إسلامه بحرية ودون خوف من أحد، وعلى يد«أردوغان» ورفاقه انهار الوهم التركي الكبير الذي سيطر على البلاد ما يقرب من ثمانين سنة، وهو الوهم الذي يقول إن الدين والدولة عدوان لدودان لا يمكن لهما أن يعيشا معا في سلام ودون صدام. وقد بقي هذا الوهم مخيفا للجميع، لأنه كان وهما مسنودا بقوة الجيش، فكان الجيش إذا رأى أن الدين يوشك أن يصل إلى رأس الدولة أو يقترب منها غضب وزمجر وكشر عن أنيابه وتدخل على الفور كما فعل مع الزعيم «نجم الدين أربكان» و«حزب الرفاه» الذي تم إلغاؤه - كما سبقت الإشارة بضغط من الجيش سنة 1998 كذلك اضطر «أربكان» نفسه أن يتخلى عن رئاسة الوزراء. بعد أن أصبح حزبه الإسلامي وأفراد هذا الحزب ممنوعين من العمل بالسياسة، ومن هنا بدأ «أردوغان» طريقه الخاص المستقل حتى استطاع أن ينشئ حزبه العظيم وهو «حزب العدالة والتنمية» وأن يزيل من أذهان المواطنين ما يبدو أنه صراع حتمي بين الدين والدولة، بل وأن يثبت أن هذا الصراع في أغلبه مفتعل وأن بالامكان الوصول بالمجتمع الإسلامي إلى نوع من التوافق يلغي الصراع والصدام الذي يعطل الدين ويعطل الدولة معا، كما هو الحادث في حالة طالبان على سبيل المثال، فطالبان تسيطر عليها ثقافة محدودة فقيرة، وعدم فهم للعصر الحديث بمشاكله التي تتطلب وعيا واستنارة وعمق تفكير وسماحة عقلية للتعامل معها تعامل المتحضرين وليس تعامل الخارجين من الكهوف. قبل ظهور «أردوغان» كانت القضية هي إبعاد الدين عن السياسة، وبعد النجاح الساحق لأرودغان وحزبه أصبحت القضية هي ابعاد الجيش عن السياسة، وكل الإشارات تؤكد أن إبعاد الجيش عن السياسة وإعادته إلى وظيفته الرئيسية في حماية أمن البلاد هي في طريقها إلى النجاح التام، وهكذا اصبح أردوغان زعيما استثنائيا لبلاده، وقد استطاع أن يحقق بزعامته هذه ما عجز عنه من سبقوه ولذلك أحبه الناس وانتخبوه ومنحوه ثقتهم الكاملة. عن صحيفة الوطن القطرية 5/8/2007