حقيقة رسوب 71% من طلال أولى طب بقنا و80% بأسنان في جامعة جنوب الوادي    برعاية رئيس مجلس الوزراء |حوار مع الشباب بالحقائق والأرقام    أخبار كفر الشيخ اليوم.. مدرس يهدي طالبتين من أوائل الجمهورية بالثانوية سبيكة ذهبية عيار 24    «500 ألف كيس طحين».. حاجة ملحة لسكان غزة أسبوعيًا في ظل عدم انكسار المجاعة    ضياء رشوان: مجازفة كبيرة لعبور الشاحنات من معبر كرم أبو سالم حتى ساحل غزة    بن شرقي: فخور بتواجدي مع الأهلي.. والجماهير أبهرت الجميع في المونديال    الطقس غدًا.. أجواء شديدة الحرارة على أغلب الأنحاء والعظمى بالقاهرة 40 درجة    أحمد سعد: الناس بتحب شكل المطرب يبقى غريب والجمهور مستني "لوك" مختلف    انطلاق مؤتمر جماهيري حاشد بقنا لدعم مرشحة الجبهة الوطنية وفاء رشاد في انتخابات الشيوخ    أسباب تأخر إعلان الحد الأدنى للمرحلة الأولى لتنسيق الجامعات 2025    إعلام عبري: إصابة 8 جنود إسرائيليين بجروح خطيرة في قطاع غزة    التعليم العالي توجه نصيحة للمتفوقين بالثانوية العامة قبل بدء تنسيق المرحلة الأولى    بوفون ينتصر في معركته مع باريس سان جيرمان    وزير الطيران المدني يشارك في فعاليات مؤتمر "CIAT 2025" بكوريا الجنوبية    دار الإفتاء: السبت غرة شهر صفر لعام 1447 هجريًّا    المشاط: 15.6 مليار دولار تمويلات تنموية للقطاع الخاص في 5 سنوات    الصيادلة: سحب جميع حقن RH المغشوشة من الأسواق والمتوافر حاليا سليم وآمن بنسبة 100%    تخفيض أسعار تذاكر صيف الأوبرا 2025 في إستاد الأسكندرية احتفالاً بالعيد القومي للمحافظة    مقتل 12 شخصا على الأقل في اشتباك حدودي بين تايلاند وكمبوديا    الكويت الكويتي يعلن تعاقده مع سام مرسي    جمال الكشكى: دعوة الوطنية للانتخابات تعكس استقرار الدولة وجدية مؤسساتها    الرئيس الإيراني: نواجه أزمة مياه خانقة في طهران    السبت أول أيام شهر صفر لعام 1447ه    ترحيل محمد عبد الحفيظ المتهم بحركة "حسم" خارج تركيا    الداخلية تنظم دورة تدريبية في الغوص والإنقاذ النهري    تطورات صفقة انتقال حامد حمدان للزمالك .. سر وعد جون إدوارد للاعب الفلسطيني (خاص)    وفاة المصارع الأمريكي هوجان    "تناغم بين البرتقالي والأبيض".. منة فضالي بإطلالة صيفية جريئة على اليخت    هنادي مهنا تنتهي من تصوير حكاية "بتوقيت 28"    خالد الجندي: مساعدة الناس عبادة.. والدنيا ثمَن للآخرة    هل يحاسب الإنسان على المحتوى المنشور على السوشيال ميديا؟ أمين الفتوى يجيب    هل لمبروك عطية حق الفتوى؟.. د. سعد الهلالي: هؤلاء هم المتخصصون فقط    مغربي جديد على أعتاب الزمالك.. من هو أيمن ترازي صفقة الأبيض المحتملة؟    "الصحة" تتخذ خطوات للحد من التكدس في المستشفيات    جولة مفاجئة لوكيل صحة المنوفية.. ماذا وجد فى مستشفى حميات أشمون؟    لخفض ضغط الدم- 5 أشياء احرص عليها قبل النوم    «خطافة رجالة».. غفران تكشف كواليس مشاركتها في مسلسل فات الميعاد    جلسة خاصة لفيريرا مع لاعبي الزمالك قبل المران    رفع 50 طن نواتج تطهير من ترع صنصفط والحامول بمنوف    شعبة الدواجن تتوقع ارتفاع الأسعار بسبب تخارج صغار المنتجين    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    أردوغان: نسير بثبات لنصبح قوة مؤثرة بالمنطقة والعالم    تشغيل كامل لمجمع مواقف بني سويف الجديد أسفل محور عدلي منصور    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    «جمال الدين» يستعرض إمكانات «اقتصادية قناة السويس» أمام مجتمع الأعمال بمقاطعة تشجيانغ    غدًا.. "شردي" ضيفًا على معرض بورسعيد الثامن للكتاب    وزير التعليم العالي يكرم الطلاب الفائزين في مسابقة "معًا" لمواجهة الأفكار غير السوية    تعرف على خطوات تصميم مقاطع فيديو باستخدام «الذكاء الاصطناعي»    أمين الفتوى: لا يجوز التصرف في اللقطة المحرّمة.. وتسليمها للجهات المختصة واجب شرعي    الأمم المتحدة: الحرمان من الغذاء في غزة يهدد حياة جيل كامل    «سعد كان خاين وعبد الناصر فاشل».. عمرو أديب يرد على منتقدي ثورة 23 يوليو: "بلد غريبة فعلا"    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    وزير الأوقاف: فيديوهات وبوسترات لأئمة المساجد والواعظات لمواجهة الشائعات والأفكار غير السوية بالمجتمع    الرئيس الصيني: نسعى لتعزيز الثقة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي رغم الخلافات    «كتالوج»... الأبوة والأمومة    بالأسماء.. إصابة ووفاة 5 أشخاص فى حادث تصادم سيارتين بمحور ديروط فى أسيوط    صاحب مغسلة غير مرخصة يعتدي على جاره بسبب ركن سيارة بالإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن غض البصر.. من واشنطن! /د.احمد خيري العمري
نشر في محيط يوم 28 - 08 - 2009


د.أحمد خيري العمري

عندما طلب مني أحد قرائي الشباب أن أكتب عن غض البصر قبل حوالي سنة، وعدته خيراً من باب المجاملة لا أكثر.. لم أكن أدرك قطعا أني سأضطر للوفاء بوعدي ولو كنت في واشنطن، بالضبط كما لم أتصور قط يوم ذهبت إلى ميرلاند لحضور محاضرة 'شبابية' أن موضوعها الأساسي سيكون عن غض البصر..


يومها اتصل بي صديق يعرف اهتمامي بأمور الشباب عموما وبالذات شباب 'الجيل الثاني' من مسلمي أمريكا، وسألني إن كنت أرغب في حضور محاضرة للشباب المسلم وعن الشباب المسلم في كلية مونتغمري في ولاية ميرلاند، ولاختصار الوقت فقد انتظرته لكي يمر على المحور الذي يربط أجزاء ما يعرف بواشنطن الكبرى (واشنطن العاصمة مع أجزاء من فرجينيا وميرلاند).. لم أكن أدري أني سأكون على موعد مع ما هو أكثر من المطر الذي فاجأني وقتها.. بل مع موعد مع جزء كبير من مشاكلنا كمسلمين في كل مكان .. في الغرب أو في الشرق.. في أمريكا في أي بلد من بلداننا..


وصلنا متأخرين قليلا، ولكن لم تفتنا مشاهدة أول المتحدثين .. كان شابا في أواسط العشرينات من العمر، له طلة الدعاة الجدد في بلادنا ولكنه مثال حي على كون الطلة وحدها لا تصنع الدعاة، فالتشابه بينه وبين الناجحين منهم ينتهي بحسم عند الطلة والوجه الحسن والابتسامة التبشيرية، بعدها ستسمع حديثا ستستنكره (حتى لو سمعته في بلداننا!) وسيكون الإنكار والاستنكار أكبر عندما يكون الحديث موجها لشباب مسلم في أمريكا: أي لشباب يفترض أن يوجه لهم خطابا يقويهم ويساعدهم في تنمية قدراتهم كمواطنين أمريكيين ومسلمين في الوقت ذاته..


المتحدث اختار لدرسه أن يكون بشكل 'قصة'.. لا بأس.. المهم المضمون، لكن المشكلة كانت في المضمون نفسه، أزعم هنا أن القصة لو رويت لمجموعة من المتخلفين عقليا لربما استنكروا شدة تخلفها وانتبهوا للأخطاء فيها.. مرّ علي بعض الوقت وأنا أستمع للقصة متخيلاً أنه سيطلب من الحضور بعد أن ينتهي أن يعددوا له الأخطاء التي وقع فيها (أي كي يكون الدرس تفاعليا..) لكني كنت حسن الظن أكثر مما يجب.. إذ لم تكن لديه نية من هذا القبيل إطلاقا..


القصة باختصار تحكي أن شابا عفيفا يغض بصره ويحفظ القرآن ويسكن في مكة المكرمة قرر أن يتركها ويهاجر من أجل الدعوة، ركب السفينة من ميناء مكة (هكذا !!) وكما هو متوقع تعرضت السفينة لعاصفة وغرق جميع الركاب إلا هو حيث تعلق بخشبة قادته إلى شاطئ البحر، وهناك أخذ يتلو القرآن بصوت رخيم وتجمع عليه السكان الذين سروا به جدا لأنهم مسلمون ولكن ليس هناك بينهم من يقرأ القرآن أو يحفظه.. وأخذوه بسرعة إلى ابنة الملك التي كانت قد استلمت الحكم للتو بعد وفاة والدها وتحتاج في أسرع وقت إلى زوج ليكون الملك!!! وهكذا قررت أن تتزوجه وأن يكون هو ملك البلاد المتوج، إذ من سيكون ملكاً أفضل من شخص يحفظ القرآن؟..


وهكذا تم الزفاف في نفس اليوم وسط فرحة السكان.. وانتقل الشاب العفيف من السفينة الغارقة إلى قصر الملك في يوم واحد فقط.. أما المفاجأة الكبيرة فكانت في الخاتمة: فبعد انصراف الجميع واختلاء الشاب بزوجته الملكة التي خلعت النقاب أخيرا.. وإذا بالنقاب يتكشف عن صاحبة أجمل وجه في العالم .. وإذا بدموع زوجها تنهمر من عينيه من شدة الفرح!!!


العبرة من كل هذه القصة واضحة: احفظ القرآن وغض بصرك وستنتهي إلى أن تكون ملكا أو تتزوج من ملكة جمال على الأقل.. والعبرة هنا ليست خاطئة وسطحية فحسب، بل هي مؤذية وسلبية أيضاً، لأنها تعطي رسالة تسطيحية جدا عن كل شيء: عن المقاصد من التكليف وعن كون الجزاء دنيوياً وفورياً بل وحتى عن الجمال باعتباره مظهرا خارجيا يجعل الدموع تنهمر..(هذه بالذات لم أفهمها بصراحة!!)


دين آخر


أكرر مرة أخرى: هذه القصة رويت على أسماع مجموعة من الشباب الجامعيين المسلمين الذين يعيشون في عاصمة الدولة الأقوى (حاليا) في العالم.. ومتطلبات الفاعلية في هذا المجتمع أبعد ما يكون عن مضمون تلك القصة .. هذا عدا عن مخالفة هذا المضمون الصارخة لكل ما جاء به الإسلام.. أنهى الأخ درسه بأبيات لا تصلح حتى لبريد القراء كتبها في زوجته..كان هناك بعض المجاملات الفاترة بعد أن انتهى من درسه، والتفاعل الواضح الوحيد كان من سيدة أفغانية متقدمة في السن حضرت المحاضرة مع ابنتها الشابة..


المتحدث الثاني كان أفضل بما لا يقاس، لكنه أفضل بمقاييس لست واثقا أنها كافية لمواجهة الضغوطات التي يعانيها الشباب والشابات عموما، وفي الغرب وأمريكا خصوصا..بعبارة أخرى: كان 'غض البصر' هو المحور الأساسي لأغلب إجاباته عن تساؤلات الشباب في موضوع صراعهم مع شهواتهم ومع التحديات التي تواجههم.

.
التفتُّ لأتفحص الحضور: كانوا شبابا وشابات في أعمار لا تتجاوز العشرين، عددهم لم يتجاوز الثلاثين (من أصل 400 مسلم موجود في الكلية، وكلهم مسلمون أمريكيون بالولادة أو التجنس).. نجد فيهم المحجبة والسافرة بتحفظ والسافرة بلا تحفظ والملتحي بتحفظ والملتحي بلا تحفظ والحليق والحليق جدا..الخ.


من الخارج ستجدهم يشبهون الشباب في بلادنا، لكن الأمر لا يعدو تشابها سطحيا، فالشباب الذين يمتلكون نفس المظهر في بلادنا هم 'متأمركون '.. أما هؤلاء فهم أمريكيون، والفرق كبير جدا بين الحالتين وإن كنت لست في صدد الخوض فيه الآن..


استطعت أن أمد جسور الحوار مع أحد هؤلاء الشباب.. لست واثقا من أنه كان حوارا بقدر ما كان استدراجا واستجوابا حول مواضيع تهمني معرفتها ليس من الكتب أو من الإحصاءات أو من تحليلات البرج العاجية، بقدر ما أحصل عليها ممن يعيشونها ويعانونها على أرض الواقع..


كان شابا قال إن اسمه 'شان'، اتضح لي لاحقا أن اسمه الأصلي احتشام، باكستاني المولد، جاء إلى أمريكا مع أسرته وهو في الثامنة من العمر، وصار أمريكيا بالتجنس- على الأقل..


سألته وأجابني، وواصلنا حوارنا لاحقا عبر مكالمات هاتفية طويلة، كان سؤالي الأول له هو هل شعرت أن المحاضرة تقدم لك الحلول؟ هل تشعر أن 'غض البصر' سيكون حلا لشباب مسلم في أمريكا في العشرين من عمره أو دون ذلك..؟
كنت أتوقع الجواب السلبي لكن لم أتوقع أبدا ما سمعته..


كان جوابه صادما...


قال لي بلا تردد: لو أني قمت بغض البصر عن الفتيات، فسيتصور الجميع هنا أني شاذ جنسيا!


كلامه منطقي جدا، لكنه لم يخطر في بالي قط، هذه أمريكا، ليست دمشق ولا بغداد ولا جدة ولا القاهرة.. الشاب عندنا، في مجتمعاتنا، يواجه ذلك الاستفزاز اليومي غير الطبيعي لشهواته وغرائزه الطبيعية بدرجة قد تختلف من مدينة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر: لكن الاستفزاز موجود ومدعوم بشحنة إعلامية لا يمكن إنكارها.. (ولا أنسى هنا ذكر الشابات أيضا، فالاستفزاز سواء..).


ولكن الشاب عندنا لا يزال يمكنه بصعوبة، أقر بذلك- أن يغض البصر ويتحصن بالأمر الشرعي.. دون أن يتهم من قبل أقرانه 'بالشذوذ الجنسي'.. ستكون هناك أقوال أخرى متهكمة (مُطوَّع ؟ معقد ؟ شيخ؟) ولكن الأمر لن يصل لاعتباره شاذا (آمل أن أكون على صواب.. وأن التدهور لم يصل لهذه النقطة بعد)... هناك عموما 'تفهم' للأمر ناتج عن معرفة مسبقة بالأمر الشرعي ولو حتى مع عدم الالتزام بالأمر..


لكن هذه أمريكا


الأمر هنا غريب لهذه الدرجة، ولا علاقة له بكون الدين السائد هو دين آخر غير الإسلام، لأننا نعرف أصلا أن تعاليم السيد المسيح بهذا الشأن (التي لا تزال موجودة في الإنجيل المتداول) أشد مما هي عندنا، ولكن الدين كله تم وضعه في زاوية معينة وظيفته الأساسية هي التخفيف من ضغوط الحياة المعاصرة لا أكثر ولا أقل (وهي نفس الزاوية التي يسعى البعض لجعل الإسلام فيها)، وبالتالي فان الحديث عن غض البصر لن يكون له موقع من الإعراب في وظيفة كهذه.. وهكذا فان شابا أمريكيا مسلما قد يتمكن من الإفلات من الزنا، ومن 'المواعدة'، ومن ضرورة أن يكون له صديقة، ولكن أن 'يغض بصره' كلما مرت فتاة، ومع سبق الإصرار والترصد، فانه سيضع نفسه أمام محيطه وأقرانه في وضع حرج: سيعدون وضعه غير طبيعي: إما شاذ جنسيا.... أو 'لا شيء' جنسيا .. لكن أحدا لن يفهم أنه يحاول الالتزام بأوامر دينه، وأنه يحاول قدر الإمكان إبعاد الحطب عن نيران غرائزه..


والوضع الطبيعي لأي شاب طبيعي عندما يواجه تهمة 'اللاشيء' جنسيا هي أن يثبت العكس، كما يكون الأمر أشد وطاة عندما يتهم بالشذوذ، فإنه سيحاول حتما أن يثبت العكس بطريقة أشد..جوابه هذا، على بساطته أنهى الأمر بالضربة القاضية، لم يعد هناك ما يقال بعدما قال ما قال..


بعبارة أخرى، من بين كل ما يمكن غض النظر عنه، فإن ملاحظة هذا الشاب لا يمكن غض النظر عنها إطلاقا..
كنت أعرف أن هناك ميلا عند الناس للظهور بأفضل مظاهرهم وأحوالهم عند مقابلتهم لرجال الدين، وينعكس هذا على أسئلتهم التي ستبدو غالبا تدل على تقوى (مولانا ما هو الوقت الأنسب لصلاة الضحى؟!!) وهذا الميل للأسف يقدم معطيات غير دقيقة لرجال الدين هؤلاء ويقدم لهم صورة متفائلة عن الوضع العام لجمهورهم، ولا أزال أذكر داعيا وشيخا معروفا (ألقابه تتضمن بالإضافة إلى هذا لقب العلاّمة) قال على شاشة التلفاز مرة عن إيمانه الجازم بأن تسعين في المائة من المسلمين محافظون على صلاتهم ولا يقترفون الكبائر..


وبغض النظر عن الخطأ الفادح في الرقم فإنه علينا أن ننتبه إلى أن إحاطة المشايخ من قبل ناس معينين (لديهم درجة معينة من الالتزام وبالتالي نوع معين من الأسئلة) تسهم في جعل بعضهم يعيشون في عالم أكثر مثالية من العالم الحقيقي (ما دامت أخطر الأسئلة هي عن العادة السرية فهذا يعني أنه لا أحد يزني !!، هذا عدا عن الكبائر الاخرى التي لا يتحدث عنها احد مثل أن تمضي حياتك دون أن تفعل شيئا على الاطلاق.)..



كل هذا كنت أعرفه وكنت أتصور أن أجواء الانفتاح في الحوار في الغرب ستجعل الأمور أكثر وضوحا للشيوخ والدعاة العاملين هناك، قلت لشان: لِم لم تخبر الشيخ بذلك بعد انتهاء الدرس، لِم لم تخبره أن الشاب منهم سيتهم بالشذوذ إذا غض بصره عن الفتيات..؟


أشار ببساطة إلى الشباب الباقين، قال لي إنهم سيتهمونه بقلة الالتزام ويسكتونه فورا.. (إذن الأمور عندنا كما عندهم، وبينما ثبتت براءة النعامة من دفن رأسها في الرمال عند استشعار الخطر فإني لست واثقا من براءتنا نحن..)
تساءل شان عن إمكانية 'غض البصر' مع زميلة تشاركه في التجارب المخبرية في الكلية، أو تشاركه في كتابة تقرير، وفي الحالتين لم يختر مشاركتها أو سواها، ولا يمكن له أن يحول الأمر إلى 'دراما' بطلبه أن يكون مع زميل ذكر أو أن يكون وحده، تساءل عن إمكانية 'غض البصر' في مجتمع يعتبر أن التواصل بالعين eye contact أساس من أساسات التواصل والتفاهم.. بل ويعد من دلائل الثقة بالنفس في مجتمع يقدس الثقة بالنفس!..


'شان' قال أشياء أخرى كثيرة ولعل المجال لا يتسع لها هنا، و'غض البصر' جزء يسير جدا من التحديات التي تواجه الشاب المسلم الملتزم في الغرب (وفي مجتمعاتنا السائرة بخطى متسارعة نحو تغريب يستورد أسوأ ما في الغرب خاصة)..


لكن علينا أن لا نقلل على الإطلاق من أخذ هذه التحديات على محمل الجد، ومن جعل التجديد في النظر للأمر الشرعي متوازنا بطريقة لا تعجز الشاب ولا تخرج عن الأمر الشرعي في الوقت ذاته: فلننتبه هنا إلى أن المشكلة الأساسية في 'النظر' هي في الخيال الذي يعقبه، ووسائل الإعلام تشحن هذا الخيال وتجعل من الآخر (الأنثى أو الذكر) كائنا جنسيا فحسب لا هم له سوى الجنس والجنس القذر تحديدا


وهذا الأمر يكون أكثر تأثيرا على نظرتك للمرأة التي لا تعرفها (أي النسوة اللواتي تراهنّ في الطريق أو في وسائل المواصلات ولا تملك حوارا معهن) بينما الأمر مع من تعرفهنّ وتحتكّ بهنّ في العمل يكون أقل تأثيرا لأنك ببساطة 'تعرفهن' وتعرف أنهنّ لسن 'هكذا'..(الشيء ذاته ينطبق على الذكور بالنسبة للإناث)..ولا يعني هذا عدم الابقاء على حواجز و حدود واضحة في التعامل ، و لكن الخطر هنا لن يكون من مجرد النظر بل من أشياء اخرى لذا فأن غض النظر وحده لن يزيحها.

الايمان الحقيقي

بعبارة أخرى يجب التفريق بين 'النظر' في التعامل الحتمي مع الجنس الآخر في مؤسسات التعليم والعمل المختلفة وبين النظر غير الحتمي في الطريق أو سواه.. الأول سيتضمن حتما التواصل بالعين بطريقة تلقائية (ولا داعي لإنكارها أو إنكار حتميتها، حتى الشيخ الذي كان يعطي الدرس كان يرد على أسئلة الفتيات وينظر لهنّ أثناء ذلك) ولكن التنظير الفقهي لذلك لا يزال متأخرا عن الممارسة وهذا ما يجعل الأمر يبدو متساويا مع النظر غير الحتمي والذي يحمل الحطب الفعلي إلى نيران الخيال والشهوة..


أي الحالة الثانية التي أتصور أن غض النظر يجب أن يوجه لها بشكل حاسم.. والتوازن في كل ذلك سيقدم بديلا منطقيا عن جهود أدعياء التجديد التي تحاول إباحة التفلت تحت مسميات مختلفة (من إباحة القبلة للتخفيف عن الضغوط الجنسية! وصولا إلى إباحة الزنا نفسه تحت مسمى ملك اليمين) .. وهي الأقوال التي 'تستثمر' أزمات الشباب ومعاناتهم أكثر مما تحاول مساعدتهم..


سيقول البعض إن هذه سفاسف تفصيلية تجاوزها الزمن وإن 'غض البصر' سقط بالتقادم.. لكن دعونا نتذكر: 'الأمر' جاء في القرآن الكريم، وليس عبر حديث مختلف في صحته أو أقوال فقهاء لكي نغض النظر عنها..
إنه القرآن.. وإذا كنا نؤمن حقا بأنه صالح لكل زمان ومكان، فعلينا أن نجد دوما امتدادات معانيه وآفاقها في واقعنا، مهما بدا الأمر للوهلة الأولى خارج فترة الصلاحية..


فلنتذكر هنا أيضا أن 'غض البصر' وسيلة للتقوى وليس التقوى بحد ذاتها، لذلك جاء السياق القرآني 'قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ' الحديث عن المؤمنين، وليس عن الذين آمنوا، والفرق أن الإيمان هنا صار صفة ملازمة لهم، صار وسيلة تعريفية لهم، وليس مجرد فعل ماض ارتبطوا به..


الفرق هو الإيمان الحقيقي، الإيمان بوصفه قضيةً للحياة، الإيمان الذي هو المحرك الداخلي الذي يجعل الأشخاص يبدعون وينتجون ويلتزمون، هذا الإيمان وحده- ولا شيء سواه، يمكن أن يجعل الإنسان يترفع عن شهواته، لا أقول أن يدخل في رهبانية حرّمها الإسلام أصلا، ولكنّ إنسانا كهذا سيتمكن من غض بصره عن ما حرم الله، لأن رأسه يحلق في أفكار وقيم أعلى بكثير.. لقد ارتفع بفكره، فتمكن من غض بصره..

بعبارة أخرى، أولئك الشباب الذين تحتدم أمورهم فسلجيا في مواجهة كل هذا الاستفزاز المتعمد الذي يستنزف خيالهم وقواهم، هؤلاء يحتاجون أن نضع في رؤوسهم إيمانا بنهضة ما، إيمانا بنهضة تستمد جذوتها من القرآن الكريم.. عندها ستكون أمورهم أقل احتداما..


أي حديث يركز على 'غض البصر' دون أن يمر بما سبق يشبه المفاصلة على مواصفات إطار سيارة، قبل شراء السيارة نفسها...



*كاتب عراقي
جريدة القدس العربي
28/8/2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.