الهند والحياد الإيجابي والسيدة رايس نمر الزناتي الذين عاشوا سنوات الخمسينات من القرن العشرين وأنا واحدٌ منهم يعرفون ما كان للهند (هند - نهرو) من مكانةٍ عظيمةٍ، إلى جانب يوغوسلافيا - تيتو، ومصر عبد الناصر، وإندونيسيا سوكارنو، عند الأكثرية الساحقة من شعوب الأمة العربية وشعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاّتينية لمواقفها ( المنحازة ) لقضايا تلك الشعوب وكفاحها للتحرّر من سيطرة الاستعمار والاحتلالات الأجنبية (الأوروبية والأميركية). وما كانت تتمتّع به - أعني الهند - من احترامٍ عند المعسكريْن بالرغم من الحياد الإيجابي المناهض الذي تتبنّاه، فضلاً عن الاحترام الكبير عند دول وشعوب العالم الثالث. خاصّةً وأنّها كانت قد خرجت للتوّ من تحت سيطرة الانجليز إلى فضاءات الحرّية والتنمية والاستقلال.بعد قرون من الاستعمار الإنجليزي على (يد شركة الهند الشرقية) التي بدأت العلاقة معها تجارية (بريئة) كنوع مما يعرف هذه الأيام ب (الخصخصة) انتهت باستعمار شبه القارة الهندية كلها إضافة الى الجنوب العربي، وعلى يد الشركة المذكورة نفسها. ولا شك أن هؤلاء يعرفون أيضاً سذاجة وصلافة - إن لم أقل وقاحة - طلب السيدة رايس من الهند كي تتخلّى عن كونها دولة غير منحازة بحجة أن عالم عدم الانحياز قد انهار بانهيار عالم تعدّد الأقطاب - أو الأرباب - وانهارت معه مبرّراته ومقوّماته وانتهى الأمر بالعالم ليصبح عالما واحداً له قطبٌ واحد. وهي نظرة تدلّ، فيما تدلّ، على جهل السيدة رايس بحضارة الهند وروحانيّة الشرق وبالأبعاد الإنسانية لفكرة ودوافع حركة عدم الانحياز التي قامت بدورٍ فعّال في تصفية الاستعمار الغربي ومساعدة الشعوب الآفروآسيويّة على نيل استقلالها والدفاع عن حقوقها في التنمية والنهوض من عهود الاضطهاد والاستعباد واستعادة ما تبقّى من خيراتها وثرواتها التي انتهبها الغرب. ذلك أن (ما نراه من رفاه وسعادة وتقدم في الغرب إنما هو مبني على تعاسة وشقاء ونهب خيرات أبناء المستعمرات) كما قال الكاتب الإنجليزي ''وليم دات'' المنحدرمن أصولٍ هندية. بمعنى آخر السيّدة رايس تطلب من الهند أن تتخلّى ببساطة عن إرث عظيم يشكل ركناً أساسيّاً من عقيدتها السياسية التي بناها رجال دولة وقادة أمم ومفكرون حالمون عظام مثل غاندي ونهرو وطاغور. وكأنّها تطلب من الهند التخلّي عن جزء من تراثٍ إنسانيٍّ عظيمٍ تعتزّ به كمفخرةٍ من مفاخرها لا لشيء إلاً لترضي غرور سيّدة مأخوذة بصلف القوّة المجرّدة والانفراد باستعمالها لفرض سياسات وتحقيق أهداف لها ترجمة واحدة فقط هي نهب وسلب واغتصاب؟! وكواحدٍ من هؤلاء الذين عاشوا الفكرة وظروف نشأتها وتبلورها - أعني فكرة عدم الانحياز أقول : إن فكرة الحياد الإيجابي وهي منسوبة للهند و للبانديت جواهر لال نهرو، أو عدم الانحياز المنسوبة لجوزيف بروز تيتو ويقال لنهرو أيضاً قامت أساساً نتيجة إحساس مشترك عند الشعوب المضطَّهّدة بالاستقلالية والانتماء إلى منظومة قيم ومثل إنسانية راقية تستند إلى مبادئ لا تزول ولا تنهار وهي مبادئ العدل والخير والحريّة والمساواة وأن الحق فوق القوّة.... مما تتناقض ولا تلتقي مع المنظومة الغربية القائمة على القوّة المجرّدة من أبعادها الإنسانية. خاصّة إذا تذكّرنا أن معظم شعوب إفريقيا وآسيا كانت ترزح تحت استعمار الغرب الديمقراطي واحتلاله المباشر. وهي تقول بكل بساطةٍ أيضاً للمعسكريْن لن ننحاز لأيٍّ منكما ولا مصلحة لنا فيما يجري من صراعات بينكما. ليس من باب ( فخّار يكسّر بعضه ) ولكن من باب المشاركة الفعلية والمؤثرة في الساحة الدولية حتى لا يكسّر الفخار بعضه خاصّة وأنه فخّار نووي قد يأتي على البشرية ويحوّلها إلى رماد؟ وقد أسهمت حركة عدم الإنحياز فعلا في تبريد الأجواء الملتهبة بين القطبيْن المتصارعيْن ونتيجةً لذلك ظهرت فكرة التعايش السلمي التي أدّت بالتدريج إلى سلسلة لقاءات بين القطبين على مستوى القمة قادت وأسّستْ لسلسلة تفاهمات واتفاقات جنّبت البشرية مخاطر حروبٍ كانت ستقود الكوكب إلى المجهول؟ كتلة عدم الانحياز التي شكّلت ثلثيْ دول العالم ( 116) دولة كانت نواتها الأولى مجموعة ( البانتوشيلا ) أي الخمسة : الهند، بورما، سيلان(سيريلانكا)، إندونيسيا والصين. تأسست في باندونج وتيلورت في بلغراد 1961. وقفت مع العرب وساندتهم في حركاتهم وثوراتهم للتحرّر والاستقلال خاصّة إذا تذكّرنا أن شمال إفريقيا ''العربي '' ( ليبيا وتونس والجزائر ومراكش / المغرب وما يعرف اليوم بموريتانيا) وجنوب الجزيرة العربية (اليمن / عدن وعُمان وقطر والمشيخات السبع - الامارات - والكويت كان واقعاً تحت الهيمنة المباشرة للاستعمار الفرنسي والإنجليزي والإسباني. زد على ذلك أنّ في مصر ذاتها كان ما يزيد على ثمانين ألف جندي بريطاني. رايس تكرّر سلفها الأسبق جون فوستر دالاس وزير خارجية أميركا الذي رفض فكرة الحياد في الصراع مع الاتحاد السوفييتي من أساسها حينما وصف الحياد بأنه ( من مخلّفات الماضي. وبأنه مفهوم لاأخلاقي وقصير النظر. 9/ حزيران 1955 ). وجاء ردّ الهند حاسماً ''لا يوجد أي شك في التزام الهند الحازم والملتزم بعدم الانحياز''. ويا ليت المس رايس تدلّنا على الأخلاقي في السياسة الأميركية؟ عن جريدة الرأي الاردنية 31/7/2007