هيفاء زنكنة آخر صرعات حكومة الاحتلال الرابعة اطلاقها التحذيرات من انتشار التسييس في ارجاء البلاد وعلى كل المستويات. والتسييس، هنا، بمعنى معالجة الأمور ضمن منظور سياسي يحدد مسؤولية القائمين على إدارة الشأن العام فيما يخص حياة المواطن. مما يجعل فحوى موجة التحذير الحالية، اذن، عدم ربط ما يجري بأي مسؤول أو سياسة حكومية.
وقائمة التحذيرات والانتقادات طويلة، وانتقاداتها تتم باسلوب الكيل بمكيالين، لأن المسؤولين هم أنفسهم أصحابها. ولعل اكثرالتحذيرات رسوخا في الذهن، انتقاد المالكي في 9 تموز (يوليو) الحالي، تسييس حقوق الإنسان من قبل بعض الجهات التي لم يسمها معلنا بانه يرفض إطلاق سراح أي معتقل 'إلا إذا ثبتت براءته'. مما يعني حسب المفهوم المالكي لاستقلالية القضاء وحقوق الانسان بان المواطن العراقي المعتقل.
وبعكس كل قوانين العالم، متهم حتى تثبت براءته. وان القضاء صوري وخاضع للمالكي الذي يتوهم، بانه لديه من الخبرة والدراية القانونية ما يجعله مؤهلا لأن يثبت براءة او جرم المعتقل. ومن يدري فقد يشرع المالكي، قريبا، باصدار البحوث والدراسات القانونية والحقوقية مع بعض الدواوين الشعرية والروايات!
ومن يقرأ خطاب المالكي عن حقوق الانسان ووجود آلاف المعتقلين في غياهب سجون حكومته واعتباره اياهم من المجرمين المدانين منذ لحظة اعتقالهم ورفضه معاملتهم وفق مبادىء حقوق الانسان على الرغم من تعرضهم، وبشهادات عدد من النواب وتقارير المنظمات الدولية، لأدرك لماذا ترحب الادارة الامريكية بهكذا رئيس وزراء ولماذا قال الرئيس الامريكي السابق جورج بوش بأنه لم يخب امله بالمالكي وانه يدعمه بقوة.
ولعل تصريح المالكي في مؤتمر منظمات حقوق الانسان قد ترك الحاضرين فاغري الافواه عجبا، اذ قال: ان 'حقوق الإنسان ليست محصورة بالمعتقلين، وأصبحت قضية سياسية، وعجباً ان تكون حقوق الإنسان للمعتقلين فقط وليست للأبرياء'. وهنا تتضح طبيعة الكيل بمكيالين. فكل اعتقال من قبل النظام السابق كان سياسيا، اما الاعتقال من قبل حكومات الاحتلال فانه ليس قضية سياسية!
ويصل المالكي قمة وعيه بحقوق الانسان حين يقول متسائلا: 'عما إذا كان البعض يدافع عن حقوق الإنسان للمعتقلين فمن قتل وخرب وقام بالتفجيرات؟'، مستنكراً ان 'يصل الكلام الى عدم إصدار احكام قضائية بحقهم'، أي اصدار احكام الاعدام بحق المعتقلين! ولم ينس المالكي ان ينهي خطابه بالتحذير من فيروس التسييس، قائلا بهستيريا المحصور في حفرة لا يعرف كيفية الخروج منها: 'كل شيء في العراق مسيس، حتى مكافحة الفساد الإداري دخلت فيه السياسة، وكذلك الفساد السياسي وحقوق الإنسان'.
هنا، يحاول 'رئيس الوزراء' المالكي رمي مسؤولية كل ما يجري من مساوئ تتم في ظل حكومته على التسييس. وكأنه وحكومته اعضاء في فرقة موسيقية راقصة لاعلاقة لها بالسياسة.
وتجدر الاشارة هنا الى ان بعض الناشطين الحقوقيين يربطون ما بين موقف حكومة المالكي المتشدد من المعتقلين لفترات طويلة بلا توجيه تهم اليهم او اطلاق سراحهم وما بين استهداف الناشطين الذين ساهموا في كشف فضائح التعذيب والانتهاكات في معتقلات وزارات العدل والداخلية والدفاع . وقد تم استهداف البعض وان كانوا من النواب كما حدث للنائب محمد الدايني وحادث اغتيال حارث العبيدي العضو بلجنة حقوق الانسان بالبرلمان.
وكان جورج بوش قد سبق المالكي في التحذير من التسييس عندما حذر في عام 2005 رئيس وزراء حكومة الاحتلال ابراهيم الجعفري من 'تسييس الجيش'. بينما قررت وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس تعيين مسؤول لمراقبة ' تسييس الطاقة'. وكان ' نائب رئيس الجمهورية' عادل عبد المهدي قد اتهم أثناء لقائه بشيوخ ووجهاء الديوانية بداية عام 2009 جهات، لم يسمها، بمحاولة ' تسييس العشائر'.
وطالب عبد العزيز الحكيم، رئيس حزب المجلس الاسلامي، هيئة النزاهة والقضاء بالعمل على 'محاربة ظاهرة تفشي الفساد ومعالجة القضايا الاخرى بحيادية بعيدا عن التسييس '.
ولن تتسع المساحة لمتابعة التحذير من عواقب 'تسييس الدين' و'تسييس الانتماء الديني والطائفي' لأن كل منخرط في العملية السياسية في ظل الاحتلال منغمر حتى قمة رأسه بممارسة الطائفية والعرقية وبكل شكل متاح، لابد وان ساهم في حملة اطلاق التحذيرات من خطر تسييس الدين والمذاهب والعرقية.
ولا يقتصر اطلاق التحذيرات على الساسة، اذ انتقلت العدوى الفيروسية الى المثقفين. فصار المثقف الناشط الذي لم يكف يوما عن الربط ما بين مسؤولية الكتابة والموقف السياسي الهادف بل وغالبا ممارسة العمل السياسي حسب التقليد العراقي السائد تاريخيا، صار المثقف يدعو الى عدم تسييس الثقافة، وعزل المثقف عن السياسة. وهو وضع سيكون في صالح الاحتلال وحكوماته المتعاقبة وليس كما يخبرنا دعاة اللاتسييس وعلى كافة الأصعدة، اذ سيتم تخلي المثقف عن دوره التاريخي في تنمية الوعي والعمل على التغيير نحو الحرية والكرامة والعدالة.
ان الدعوة الى اللاتسييس تعني القطيعة ما بين المثقف وبقية شرائح المجتمع عندما يكف المثقف عن اداء دوره. كما تعني تخلي المثقف عن السياسة، وهي التي من صلب اهتمامه مرتين مرة كمواطن ومرة كمثقف، لصالح ساسة فاسدين ماليا واداريا وطائفيين جهلة وعرقيين عنصريين. ان دور المثقف هو فضح هذا الزيف وما يصاحبه من تدهور في القيم الانسانية والمجتمعية والتربوية وانعكاسها على الابداع والقيم الجمالية.
هذه القيم المهمة جدا لاستمرارية حياة المثقف وتطوره وابداعه هي ذاتها الضرورية لبقية المواطنين. فكيف نفسر وقوف المثقف، في ظل احتلال وطنه الذي تم بناء على قرار سياسي وفي ظل حكومات تدعي احتكار القرار السياسي وفق محاصصة بغيضة، مطالبا بعدم التسييس؟ بل وكيف نفسر انخراط نفس المثقفين بنشاطات سياسية لصالح حزب او تيار معين بينما يدعون الى اللاتسييس؟
هل اصابتهم عدوى ازدواجية المعايير الآن ام انهم كانوا يحملونها كامنة في عقولهم؟ فها هو الاتحاد العام للادباء والكتاب العراقيين يدعو الى اللاتسييس، كما هي نقابة عمال النفط والمحامين والصحافيين، وبطبيعة الحال ينبغي عدم تسييس الرياضة على الرغم من اختطاف وقتل الرياضيين، وها هي وزارة الثقافة تؤكد 'نهجها الثقافي البعيد كل البعد عن السياسة او التسييس' بينما يقوم حراس مسؤوليها بضرب واهانة الكتاب والشعراء والصحافيين. وقد انتشر فيروس اللاتسييس الى خارج العراق، حيث وصل الى الملتقى الثقافي العراقي في كوبنهاغن.
ففي امسية للملتقى بتاريخ 15/6/2009 تم الاعلان بان المحاور التي ستناقش هي: الثقافة العراقية الآن وآفاق ثقافة التعدد في بلد متعدد الأعراق والأطياف السياسية ومثقفو الداخل والخارج ومسؤولية بناء عراق الثقافة الديموقراطية 'دمقرطة الثقافة '. وجاء المضحك المبكي حين تم اطلاق تحذير في بداية الامسية مفاده : 'الرجاء الالتزام بالمحاور والتركيز على الثقافي بعيدا قدر الامكان عن تسييس المداخلات'.
فكيف بالله عليكم يمكن مناقشة كل هذه الموضوعات الحيوية والمتداخلة فيما بينها بدون مس الواقع السياسي؟ وكيف يمكن فصل السياسي عن الثقافي؟ ألا يشبه هذا مواقف المنظمات النسوية الاستعمارية، الناشطة الآن داخل العراق، الداعية الى فصل قضية تحرر المرأة عن قضايا مجتمعها وحصرها في خندق مفهوم الجنسوية ؟ فتصبح الثقافة والسياسة والاقتصاد والاحتلال العسكري وجرائمه، كلها امورا لا تهتم بها باعتبارها غير جنسوية. وكأن المرأة كائن يقتات على جذور هوائية.
أليس الاصح، بصدد علاقة المثقف بالسياسة، هو اصرار المثقف على ان السياسة جزء لايتجزأ من الوجود الحضاري له كمواطن؟ وان السياسة، كما الاقتصاد والأمن وحقوق الانسان وحرية الراي، ملك له كما هي ملك لبقية المواطنين، وعليه الدفاع عن حقه وحقهم في المحافظة عليها، بكل السبل والاشكال التي يتقنها قصيدة كانت أم فيلما وثائقيا او لوحة فنية أو ندوة فكرية، بعيدا عن فجاجة الموعظة المباشرة او الترويج الدعائي؟
ان خيارات الابداع والتأثير مفتوحة ومتسعة اتساع السماء ومتعددة المستويات وبامكان المثقف ان يختار كيفية تعبيره عن آماله وطموحاته، مهما كانت وبأي شكل كان، مادام لا يشترط تحويل الثقافة الى حرفة تقنوقراطية صالحة لخدمة أيا كان تحت شعار اللاتسييس. ولنتذكر بأن احد تعريفات السياسة هي العملية التي تقوم من خلالها مجموعة من الناس باتخاذ القرارات. فمن الذي يتخذ القرارات في العراق، وكيف يمكن معالجة أي شأن عام بدون التعرض للقرارات التي نعيش وفقها؟