كلما سألني صديق و زميل صحفي غربي مؤيد للقضايا العربية عن حالتنا العربية كلما اكتشفت بأننا عراة تماما أمام مرآة هذا العالم الذي يصير، شئنا أم أبينا، عالم لا حدود فيه لانتشار الظاهر والمخفي.. وإن أخذ المخفي وقتا من دم وآلام وآهات قبل انفضاحه...
سألني ذلك الزميل عن سبب عجز وضيق الجغرافيا والعقل العربي عن استيعاب بضعة مئات من الفلسطينيين الذين هُجروا من وفي العراق المحتل.. وهو يعرف وبالأرقام أعداد العراقيين الذين هجروا في وخارج وطنهم... أمر مُربك بلا شك أن تحاول الإجابة على سؤال يبدو من البساطة في ظاهره وكأنه يحمل الإجابة في محتواه والأنباء تنقل موافقة "البرازيل" على استقبال بضعة مئات من هؤلاء الفلسطينيين اللاجئين إلى العراق منذ ما يقارب الستة عقود، وتزايد أعداد العراقيين المهجرين قسرا من وطنهم وفيه !
ثمة لا غرابة في أمر نتائج ويلات الحرب على العراق واحتلاله وبروز ممارسات هي في الأصل علامات فاصلة للدلالة على تحولات خلقتها طبيعة الاحتلال وضياع الدولة لمصلحة التفكك الذي يبذل فيه أي احتلال الجهد الإضافي لتحقيقه وفق الثابت الأكيد لسياسة فرق تسد.. ولا يخفى على أحد أن السيادة الآن هي للاحتلال... ولو حاول البعض مناطحة الحقيقة بكل لغات الأرض.. على كل هذا ليس موضوعنا( نقصد تبعية السيادة الوطنية) وإن كان هو صلب الموضوع، فالثابت الآخر الذي بات يفرض نفسه شيئا فشيئا يكمن في تفصيل بسيط في ظاهره وخطير جدا في عمقه..
الجغرافيا العربية تضيق أصلا على مواطنيها... قلت لزميلنا المستغرب من مشهد النفي الذي يجري للشعب الفلسطيني... ولولا أن الفلسطيني الذي يعيش لاجئا بوثيقة سفر غير معترف بها حتى من بعض الدول التي أصدرتها، فما بالنا بدول عربية أخرى وحتى أجنبية تمارس سياسة الاشتباه التي تمارسها الدول العربية بحق هذا اللاجئ... من الجيد التذكير بأن الفلسطيني الحاصل على جنسية أجنبية (غربية على الأرجح) يُسأل في المطارات العربية (بناءا على الاسم العربي) عن أصله.. ولأنه لا يتردد في الإفصاح عن أصوله الفلسطينية فإنه يخضع لمزاجية رجل الأمن أو لقانون صارم يعيده إلى البلد الذي حضر منه .. عدا عن التحقيقات الأمنية ذات الطابع السياسي لا الجنائي.. يحصل هذا الأمر مع الذين يسافرون من دول غربية إلى مطارات عربية بقصد الزيارة أو العبور..
لا تتوقف الأمور عند هذا الحد ولا مجال الآن في هذا التناول السريع لغيض من فيض التعامل السياسي والأمني مع الفلسطينيين والمزايدة في حالات حزبية ورسمية على قضية هذا الشعب للخوض بما وصل إليه أمر تعاطي بعض العرب العاديين مع الموضوع بإعادة طرح الأطروحات الصهيونية عن قضية الشعب الفلسطيني الغير منقحة بقصد أو غير قصد... لا أعرض في هذا السياق كلاما غير متصل بالواقع الذي وصلنا إليه مع البعض العربي المتناقض مع قضية الانتماء وقراءتها من خلال عملية معقدة لسيكولوجية علاقته بحكامه وحقب تاريخية معينة في حياته.. للدلالة يمكن التجوال على مواقع الانترنت، أقول الانترنت مع العلم بأنه ليس المواطن العربي البسيط القادر على ولوج هذا العالم بل طبقة مقتدرة بما يحمله الأمر من دلالات خطيرة، لنكتشف من كم التعليقات على بعض الأخبار ومن بعض الكتابات المتزايدة مدى تردي العلاقة بين الإنسان العربي ولغته وقيمه في قضايا لا تتعلق فقط بالجانب الفلسطيني منها، بل تتجاوزه إلى العلاقة بالذات والانتماء الوطني وبالمحيط... عملية من التشمير عن السواعد وتكشير عن الأنياب وتسابق للتشهير والتعميم في مواقف قل نظيرها إلا عند اعتى جماعات العنصرية والتطرف والنازية الجديدة في بعض الدول الغربية التي يعيش بين ظهرانيها ربما بعض الكتبة والمعلقين في مواقع إخبارية وإعلامية معروفة دون تنقيح أو فلتره .. ويخال للقارئ أنه يقرأ تعليقات شعوب تعيش حالة صراع وحرب منذ مئات السنين..
خلفية الواقع المأزوم...
قد يسأل المرء وما علاقة هذا بقضية قبول دولة البرازيل استقبال بضعة مئات من الفلسطينيين المهجرين من العراق؟
بكل تأكيد الأمر مرتبط.. فهذا من ذاك.. بمعنى أصح الإثبات على تدني حالة الانتماء والكفر بالعلاقة الوثقى بين أبناء الوطن العربي ليست وليدة لحظة راهنة أنتجت ما أنتجته من مواقف من علاقة بالذات والآخر.. فالسياسي الحاكم نجح من خلال سياسة ثابتة من تحويل التناقض بينه وبين الرعية إلى تناقض من نوع آخر وأشد خطورة على الوطن والمواطن مما هي عليه ظواهر الأمور..
إذ كيف يمكن تحليل الحاصل في تلبس الصمت لأمس ويوم السياسة العربية التي رأت ما رأت من ممارسات مجموعات كانت تدعي المعارضة أيام الرئيس الراحل صدام حسين بحق هؤلاء اللاجئون الفلسطينيون في العراق، فالقتل والاختطاف والتهديد بما لا يمكن تخيله لدفع هؤلاء للرحيل عن مناطق لم تعرف الأجيال التي ولدت في بغداد غيرها منذ نكبة آبائهم وضعت علامة استفهام كبيرة تحولت إلى أحجية سياسية وأمنية لم يستطع أحد إلى يومنا هذا فك رموزها... وخصوصا أن مسألة التهجير العامة في العراق جرت على أساس مذهبي طائفي بين مناطق مختلطة وأخرى غير مختلطة لجهة توسيع النفوذ الجغرافي، بينما مسألة استهداف الفلسطينيين والتهديدات المنشورة ببيانات نشرت في وسائل الإعلام لم تحتوي على وضح كامل للسبب المبطن... فالتعميم ب" أيها الفلسطينيون...." شمل تهم تعميمية سخيفة في ظاهرها وتختصر خطورة العقل المذهبي في باطنها... سخافة تلك التهم القائلة بأن الفلسطينيين في البلديات مؤيدين لصدام وبعثيين، يمكن أن ترتد سريعا على مطلقيها إذا ما كان هناك موضوعية.. وفي غياب تلك الموضوعية التي تقول بأن الرئيس الراحل صدام حسين له مؤيدين بين الفلسطينيين تنسحب على الشعب العربي بدءا من أقصى جنوب العراق إلى شماله والطواف بهذه التهمة من أبعد عاصمة وقرية عربية وغير عربية إلى أقربها.. فهي إذا تتطلب حالة من عدائية أوسع لا يمكن أن تثبت إذا ما أرادها أصحابها عنوانا لقراءة علاقتهم بالعرب الذين بكل المعايير ظلوا إلى يومنا هذا أوفياء لكل ما قدمه العراق تاريخيا في علاقته بأمته، اللهم إلا إذا كان المقصود بتراٌ لعلاقته بأمته واختصارها فقط بتأييد أعمى لدويلات الطائفية والمذهبية.. لم يساهم الإنسان العربي على ما نظن في قتل مليون عراقي وتهجير 4 ملايين في أربعة أعوام من احتلال أمريكا لهذا البلد... إلا إذا خلط البعض عن قصد بين سياسات الأنظمة المسهلة للاحتلال والشعب العربي الغير قادر على التأثير على تلك السياسات.. وهو على كل ليس بالخلط البريء الذي يدعيه مطلقوه..
استخلاص الوقائع
اختلال واقع العراق ومعاناة شعبه بالتأكيد حالة يتحمل مسؤوليتها الاحتلال الأمريكي الذي تكشفت مقاصده من وراء اجتياحه لهذا البلد، على عكس ما روجت ماكينة الدعاية التي يتحمل عملاء الاحتلال من أحزاب وشخصيات عراقية مسؤولية تاريخية لما لعبوه من دور تآمري على دولتهم التي لم يروا غضاضة بتدميرها وإعادة صياغة بلدهم وفق ما تقتضي مصالحهم.. وبالتأكيد يتحمل هؤلاء ( الذين صاروا حكاما اليوم) مسؤولية استمرار مأساة الملايين من العراقيين قتلا واعتقالا وتهجيرا ودمارا بكم الكذب الذين يهربون إليه لتبرير العمالة وتسليم البلد لمحتل لا يقيم وزنا حتى لأكثر عملاءه إخلاصا..
هذا الاختلال أنتج واقعا مأساويا في تشريد أكثر من 5 ملايين عراقي خارج بلدهم في 4 أعوام... وإذا أخذنا بدعاية "المعارضة" قبل الاحتلال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بأنه هناك 5 ملايين عراقي هُجروا أيام حكم الرئيس صدام فإننا أمام 10 ملايين... آخذين بعين الاعتبار التدفق نحو خارج العراق وعدم عودة هؤلاء إلى بلدهم... رغم أن الانتخابات دلت على أن العراقيين الذين سجلوا للمشاركة فيها خارج العراق لم تتجاوز أعدادهم 260 ألفا... ولنقل أن من كان يعيش خارج العراق مليونا... فإن السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه هو المتعلق بتشريد الملايين ولمصلحة من بعد سنوات الاحتلال؟( دون مقارنة فترة الاحتلال بفترة وجود الدولة)...
ربما أن الإجابة الغير متشنجة وغير الحزبية على ذلك السؤال ستبين لنا السياق العام الذي جاء فيه تهجير الفلسطينيين وتعميق المأزق الأخلاقي لمن برروه ويبررونه اليوم في علاقتهم بذاتهم وبأمتهم...
مشكلة الفلسطينيين الذين حولتهم عقلية الارتباط بالمشروع الأمريكي في المنطقة إلى الخيام بعد نكبتهم الأولى عام 1948 تبدو في ظاهرها فقط جزءاٌ من مشكلة العراق.. ولا ننفي أنها من ناحية التهجير العام هي كذلك... لكن الاختلاف البسيط، الذي يمكن أن يكون الفاصل في الموضوع، هو الذي ذكرناه آنفا عن المواقف المزايدة التي تحمل تبعاتها الشعب الفلسطيني... من بغداد إلى بيروت... فالشعار التضامني الذي يتحدث أكثر من الفلسطينيين عن حق العودة إلى فلسطين صار مثل دس السم في العسل.. ففي الحالة الأولى تصول وتجول رجالات الشيطان الأصغر والأكبر بحرية مطلقة اليدين( ليس فقط من خلال رجال بلاك ووتر التي أظهرت عورة الكذب) بينما استكثر المرجع السياسي والديني إصدار بيان أو موقف عملي يوقف عملية استهدافهم بسبب الأكاذيب التي أُطلقت لتُصدق.. كنا نتمنى تسجيل موقف للتاريخ ولو كان موقفا كاذبا كما فعلوا مع نداءات التوقف عن تطهير مذهبي وطائفي لمدن العراق واستهداف أماكن العبادة كوسيلة لتعزيز نهج التقسيم.. والتي ندرك بأنها لم تؤدي إلى وقف تلك الممارسات...
هذه الحالة لا تختلف كثيرا عن حالة لبنان التي يُرفع فيها شعار "لا للتوطين" كمبرر للإبقاء على حالة لا يتحملها بشر في المخيمات وخارجها من حيث العمل والدراسة وأبسط مقومات الكرامة الإنسانية... فهناك .. كما هناك.. تجد تلك المواقف العنصرية المبطنة تبريرا سخيفا يُسوق دون أن ترتجف له جفن من حرمان هؤلاء من العمل حتى بجمع القمامة.. بينما يمنح القانون اللبناني للسيريلانكي وغيره حق العمل والإقامة.. الانكى في المسألة كلها أنها تتم على أساس ذات الشعار الذي تتفق عليه المعارضة والحكومة "لا للتوطين" وهو موقف يتم المزايدة فيه على الفلسطينيين من مختلف مشاربهم الذين يصرون على العودة وعدم التوطين..
وعليه فإن عملية ترحيل هؤلاء إلى البرازيل تتم على أساس رفض عربي لاستقبالهم، وهم على كل ليسوا أكثر من مئات، إما بحجة عدم القدرة على استيعابهم أو لموقف يقول "لمنع التوطين"، وكأن الترحيل والنفي إلى البرازيل البعيدة سيساهم في تقوية الموقف العربي الذي يقول بأنه يدعم حق هؤلاء في العودة إلى أرضهم فلسطين... ليت السياسة العربية أصرت على عودة هؤلاء إلى فلسطين لتقوم الأممالمتحدة بعمل يُحسب للسياسة العربية.. لكننا سنبقى واهمين طالما أننا بصدد الحديث عن الفلسطينيين وقضيتهم( لنتخيل كيف تزايد إسرائيل القائمة على أراضي الفلسطينيين باستقبالها الدعائي للاجئين سودانيين من دارفور، مع معرفتنا بحالة العنصرية والتمييز ضد يهود الفلاشا !) أمام هذا المشهد الانتكاسي و المأساوي لترحيل أبناء العراق واللاجئين الفلسطينيين منه فلا مهرب من التخوف على تحويل العراق إلى فلسطين أخرى في المنطقة بما يحمله هذا من مخاطر حقيقية لمصلحة استمرار مأساة اللاجئين والمهجرين العراقيين بالملايين ولمصلحة بنية طائفية ومذهبية لدويلات متناحرة ومتقاتلة فيما بينها،خصوصا بعد أن أخذ مجلس الشيوخ الأمريكي قرارا عن العراقيين بتقسيم بلدهم، بينما يهرب المزيد وتتزايد أعداد المهجرين بالملايين!