باكستان: مشرف ربح معركة المسجد الأحمر وخسر حرب البقاء د. سعيد الشهابي ربما شارفت قضية المسجد الأحمر علي الانتهاء، ولكن ذيولها سوف تبقي فترة أطول، وقد تكون لها عواقب وخيمة علي امن باكستان واستقرارها من جهة وعلي نظام الحكم نفسه من جهة اخري. كما ستلقي بظلالها علي السجال المتواصل حول عدد من القضايا المهمة التي تواجه امة المسلمين. ومن ذلك: الجدل الجديد القديم حول المدارس الدينية في شبه القارة الهندية، ومفهوم الشريعة الاسلامية الذي يطرح تطبيقه عنوانا للكثير من الفعاليات التي تمارس بشكل سلمي او باساليب العنف، وكذلك الجدل حول مدي فاعلية مؤسسات المجتمع المدني كطريق لايصال الاصوات المنادية بالتغيير. وستؤثر الحادثة أيضا علي الحوار المتواصل حول ما يشاع عن التطرف الديني ومدي قدرة المرتبطين بالعمل الاسلامي علي مأسسة العمل الشعبي كطريق لتطبيق بعض الشعارات ذات العلاقة بالمشروع الاسلامي. وماذا عن المصطلحات التي بدأ الغرب في استعمالها لتوصيف المجموعات السياسية الاسلامية مثل التطرف و المجموعات او العناصر الجهادية و التوجهات المتطرفة و الاسلام السياسي و المجموعات الجهادية وغيرها مما اصبح جانبا من ثقافة الجدل حول المجموعات الاسلامية؟ فهذه الحادثة جمعت بين عدد من القضايا التي كثيرا ما تطرح بانفصال عن بعضها. ومن غرائب الامور ان تصبح باكستان محورا للعديد من القضايا المهمة في العالم الاسلامي مثل السجال حول الديمقراطية، والحرب ضد الارهاب، والتوتر الطائفي والمشروع النووي، والصراع الايديولوجي بين العلمانية والاسلام، والعلاقات الاسلامية الامريكية، وكلها قضايا اساسية مرتبطة بمستقبل العالم الاسلامي من جهة، والمشروع الاسلامي السياسي من جهة اخري. ومع ان باكستان كانت، منذ اليوم الاول للحقبة القاعدية (نسبة الي تنظيم القاعدة) فانها حتي الآن ما تزال بمنأي عن العمليات العسكرية الامريكية المباشرة، لاسباب من اهمها التنازل الذي قدمه الرئيس مشرف لواشنطن في خريف 2001، عندما اتصل به وزير الدفاع الامريكي، آنذاك، ريتشارد أرميتاج، وهدده بتدمير بلاده ان لم يوافق علي المطالب الامريكية في تعقب طالبان والقاعدة. ويمكن القول ان قضية تخندق مجموعة اسلامية مسلحة داخل المسجد الاحمر بالعاصمة الباكستانية، اسلام آباد، ربما لم تكن متوقعة من حيث التوقيت وشكل الاخراج، ولكنها كانت ضمن سياق التوقعات بحدوث مفاجآت كبري خصوصا مع استمرار ما يسمي الحرب ضد الارهاب من جهة وتواصل التعاون الوثيق بين اجهزة الاستخبارات الباكستانيةوالامريكية من جهة اخري. وقد لاحظ الغربيون علاقة تصاعد العمل المسلح الذي تمارسه جماعات متطرفة بوجود مدارس دينية غير محكومة بضوابط رسمية او أطر دينية معروفة ومتفق عليها. ومورست ضغوط كثيرة علي الحكومة الباكستانية لممارسة بعض الضوابط، واحداث تغييرات في المناهج الدراسية. وقد قامت الحكومة في الاعوام الاخيرة بخطوات في هذا المجال كتسجيل بعض المدارس الدينية، ولكن تجدر الاشارة الي ان نظام الرئيس برويز مشرف لا يستطيع تنفيذ كل ما يطالب به الغربيون، فهو يخشي من ردود فعل سلبية ضد حكمه، خصوصا انه حاكم عسكري يسعي لشرعنة حكمه ضمن تحالفات معقدة لا يستطيع ان يستثني علماء الدين منها. وبالتالي، فسوف يظل بحاجة لحلفاء يضمنون بقاءه في الحكم بعد الانتخابات التي كثر الحديث عنها، وتباينت الآراء والمواقف بشأنها. ومع اصرار السياسيين السابقين مثل نواز شريف وبينظير بوتو، علي خوض تلك الانتخابات، فانه سيظل يبحث عن حلفاء في المعركة الانتخابية المقبلة من بين النخب السياسية العديدة، ولا يريد ان يكرر ما فعله الرئيس السابق، ضياء الحق، الذي تحالف مع الاسلاميين، ولقي حتفه في النهاية في تفجير طائرته علي ايدي أشخاص يعتقد انهم مرتبطون بالاستخبارات العسكرية. وفي الوقت نفسه، فان مشرف محاصر بالمشروع النووي الباكستاني وذيوله. فهو مطالب بأمرين: احدهما سري والآخر علني. الاول التخلي التدريجي عن الجانب العسكري في المشروع، والثاني، التخلي عن عبد القدير خان، رائد المشروع النووي الباكستاني المتهم بنشر خبراته وبيعها علي دول مثل كوريا وليبيا وايران. لقد أحدث الطلاب الذين تخندقوا في مسجد لال او الاحمر، هزة عنيفة داخل المجتمع الباكستاني، لأسباب عديدة. فقد أعادوا الي الذاكرة ارتباط حركة طالبان بطلبة المدارس الدينية، وهو فصل صعب في السجل السياسي الباكستاني الحديث، ما تزال آثاره تحاصر النخبة السياسية الحاكمة والاستخبارات العسكرية. فهل ان باكستان اصبحت حقا مهددة باحتمال قيام نظام طالباني آخر؟ هذا الامر مقلق جدا، خصوصا في ضوء تصاعد اعمال العنف في افغانستان، وعودة طالبان الي العمل العسكري الذي يقترب شيئا فشيئا من عمل المجموعات المسلحة في العراق، ووجود تعاطف معها خصوصا في المناطق الحدودية بين البلدين. فقد تصاعدت في الاسابيع الاخيرة العمليات الانتحارية ضد القوات الامريكية والبريطانية والقوات العسكرية التابعة لنظام الرئيس كرزاي. واتضح كذلك ان عددا من العمليات الارهابية التي حدثت في بريطانيا مرتبطة بشكل او آخر بباكستان التي ما تزال تحتضن عددا من زعماء القاعدة وطالبان، بعلم اجهزة الاستخبارات ام بدونه. كما ان تبعات ما جري في اسلام آباد، خصوصا مقتل الكثير من الطالبات في العملية الاخيرة، يعتبر تطورا خطيرا وله دلالات واسعة. فقد تجاوزت ظاهرة الارهاب والتطرف ما كان مألوفا من ظاهرة ذكورية، واصبحت النساء عنصرا جديدا في العمل الاسلامي . ويكفي الاشارة الي ان زوجة زعيم المجموعة الطلابية التي احتلت المسجد الاحمر، صمدت داخل المسجد فترة اطول، ورفضت الاستسلام لقوات الامن والجيش. ولا يستبعد ان تشمل العمليات الانتحارية المستقبلية التي تشن في مناطق تتسع تدريجيا، اعدادا اكبر من الفتيات، وهو ظاهرة خطيرة جدا من شأنها ان تزيد الوضع التهابا. فعندما تحمل الفتيات السلاح بالشكل الذي تم به في مدرسة حفصة القريبة من المسجد الأحمر، وتتهيأ لمواجهة قوات الاستخبارات والأمن، وتتجاوز حدود الخوف من الموت، فان ذلك تحول لا يمكن التقليل من آثاره النفسية والحركية علي المجموعات التي تم تأهيلها ل المهمات الجهادية وفق منظور قادتها الميدانيين والدينيين. وبعيدا عن الشجب والاستنكار ازاء ما حدث فان الوضع أخطر كثيرا مما يتوقعه البعض. فهو تعبير عن حالة تحول في الذهنية والنفسية لدي المجموعات الاسلامية الشابة في شبه القارة الهندية، وتؤكد المنحي الذي رسمته حوادث يوليو قبل عامين في بريطانيا، حيث قيل ان قادة تلك العمليات زاروا باكستان في اوقات سابقة، وتلقوا تدريبهم هناك. صحيح ان عمليات مشابهة قد حدثت في مناطق أخري من العالم الاسلامي، ولكن عقلية المشاركين في تلك العمليات تختلف شيئا عن عقلية زعماء الحركة الطالبية الاخيرة في المسجد الأحمر. فمثلا، حدثت في العام 1979 حادثة احتلال المسجد الحرام في مكةالمكرمة، التي قام بها جهيمان العتيبي مع اكثر من 300 من اتباعه. وقد تخندقت المجموعة في الحرم بعد ان اعلنت تمردها علي النظام السعودي، واستعدت لحصار طويل كانت تأمل ان يؤدي الي حدوث تغير بشكل او آخر في هوية النظام. ولكن السلطات السعودية تدخلت بقوة، واستقدمت آلاف الجنود الفرنسيين الذين قضوا علي التمرد وقتلوا اغلب افراده. وما يزال هناك عدد من افراد المجموعة في السجون السعودية حتي الآن. تلك الحادث أحدثت هزة في النظام السعودي، ولكنها ساعدته ايضا علي التخطيط لمواجهة اي عمل مستقبلي مشابه. ومن المفارقات ان تكون السعودية منطلقا لهذه المجموعات اما بشكل مباشر، كما هو الحال في حادثة جهيمان، ام غير مباشر في حادثة المسجد الاحمر الباكستاني. وقد ارتبط صعود تيار القاعدة بشخصيات سعودية أبرزها أسامة بن لادن، ولكن في الوقت نفسه ما يزال الشباب السعوديون يلتحقون بما يعتبرونه قوافل الجهاد المتوجهة الي العراق، بل ان العمليات الاخيرة في بريطانيا قام بها أفراد يعتقد ان بينهم شخصا سعوديا او اكثر. لقد كانت حادثة الحرم بقيادة جهيمان انذارا قويا بضرورة الاستيقاظ واعادة النظر في ما يدفع الشباب السعودي، وهو الأيسر حظا من حيث المادة وفرص التعليم والسكن من شباب أي بلد عربي او مسلم آخر، لتبني الافكار المتطرفة والتمرد المسلح ضد الاوضاع القائمة، واستهداف الجهات التي تعتبرها مسؤولة عن هذا الوضع ودعمه والدفاع عنه في المحافل الدولية. وماذا عما جري في مخيم نهر البارد في لبنان مؤخرا؟ أليس ذلك محكوما بعقلية مشابهة لعقلية الشباب الذين اعتصموا بالحرم المكي قبل قرابة الثلاثين عاما؟ او الذين تخندقوا في المسجد الأحمر؟ فما الهدف من كل من هذه الاعمال؟ وما حقيقة ما يقال عن انها مبادرات استباقية لاضعاف الوجود الامريكي في هذه البلدان؟ في الاسبوع الماضي قال أحمد جبريل، الامين العام للجبهة الشعبية القيادة العامة ان هناك محاولة لتحويل مخيم نهر البارد بعد تدميره الي قاعدة امريكية بحرية . هذا الادعاء خطير لانه يعني ان الامريكيين قرروا ان يبنوا قواعد عسكرية في بلدان العالم الاسلامي في الشرق والغرب. وتردد ايضا انهم يسعون لبناء قاعدة عسكرية ضخمة في الصحراء الكبري، اما في الصحراء الجزائرية او المغربية، ولا يستبعد ان يشيدوا قواعد في ليبيا، وفي السودان بعنوان الدفاع عن دارفور. واذا اضيف الي ذلك القواعد العسكرية العملاقة التي يتم تشييدها في العراق، أولا يعني ذلك ان العالم الاسلامي من شرقه الي غربه مهدد باحتلال امريكي دائم؟ هذا التواجد المكثف، كما ظهر في العديد من المناطق، عامل شجع في السابق علي بروز مقاومة مسلحة، تحولت في بعض الاحيان الي مجموعات عنف وارهاب. انها مشكلة كبري ان تتحول بلدان المسلمين الي قواعد عسكرية ومقرات امنية للقوي الاجنبية بذرائع شتي. وليس معلوما بعد ما اذا كانت مجموعة فتح الاسلام قد تحركت بقرار خاص من قياداتها ام بوحي من الآخرين الذين يسعون لاثارة الفوضي لتمهيد مواطيء أقدام لهم في هذه البلدان. لقد كان تحرك تلك المجموعة في مخيم نهر البارد امرا مريبا، ادي الي احتقان سياسي وامني في لبنان والمنطقة، وحاول البعض استغلاله لضرب المقاومة الاسلامية التي تستهدف الاحتلال الاسرائيلي، بذريعة نزع سلاح الميليشيات. فما الذي يدفع مجموعات كفتح الاسلام او طلبة باكستان او مجموعة جهيمان للتخندق في المساجد او المخيمات بالشكل الذي حدث؟ في السعودية وقعت حادثة الحرم تمردا علي الحكم السعودي، ولكن هل كان القائمون بها يأملون بان يحققوا ما يريدون بهذا الاسلوب؟ ام انهم عرضوا بيت الله الحرام للخطر والتدمير بلا طائل؟ وعلي الجانب الآخر لم يكن تعاطي الحكم السعودي معها محل رضي، خصوصا دعوتهم القوات الفرنسية الخاصة للقضاء علي المجموعة. ويمكن القول ان تلك الحادث اسست للتطورات اللاحقة التي ادت في النهاية الي قيام تنظيم القاعدة. ومن المتوقع ان تكون السعودية في المستقبل غير البعيد ساحة مواجهات دامية بين الحكم السعودي والمجموعات الارهابية المتطرفة. اما باكستان فتتوفر علي ارضية مناسبة للاحتقان السياسي، سواء علي اسس مذهبية ام سياسية ام ايديولوجية. فاستمرار الحاكم العسكري في منصبه لا ينسجم مع مقولة الديمقراطية، وسوف يظل هدفا لحراب الاطراف المتباينة. فالامريكيون يستغلون ذلك لتحقيق تنازلات من باكستان في مجالات المشروع النووي والحرب ضد الارهاب والعلاقات مع ايران، والنخب الليبرالية تري فيه تكريسا للحكم العسكري الذي لا يستقيم مع قيم الديمقراطية، والمجموعات المتطرفة تري فيه تجسيدا للنفوذ الامريكي والتصدي للظاهرة الاسلامية. وبرغم الاسلوب الخاطيء الذي انتهجه طلبة وطالبات مدرسة حفصة باحتلال المسجد الاحمر وتعريض قداسة المسجد ورواده للخطر، فانه يعتبر تأسيسا لتمردات مسلحة ضد نظام مشرف، ويعبر عن حالة احتقان واسعة لم يستطع مشرف وداعموه احتواءها. انه لخطأ كبير ان يتم التعاطي مع هذه الظواهر بعقلية الحسم العسكري بعيدا عن قراءة خلفياتها السياسية والايديولوجية. ومن الضروري ان يعاد النظر في اولويات العمل الاسلامي، فهل هو تطبيق الشريعة؟ ام التأسيس لعدالة انتقالية؟ ام اقامة دولة الانسان كمقدمة لدولة الاسلام؟ ومن الخطأ الكبير التعاطي مع ظواهر التمرد التي تتطرف ضد الغير أحيانا وتنتحر أحيانا أخري، وتخوض حروبا غير مستعدة لها ثالثة، ببساطة ساذجة بعيدا عن تفكيك العوامل وراءها، واعادة قراءة نفسية المؤمن المجاهد الذي تم اقناعه بان السعادة تبدأ بالانتحار لتصعد الروح في نزوة من النيرفانا الموهومة، مبتعدة عن التحدي السياسي الذي يتطلب الخوض فيه جهادا ضد النفس اولا. عن جريدة القدس العربي 11/7/2007