حاجتنا إلى علم كلام جديد عمر حيمري الكلام هو مجموعة من الألفاظ المركبة, الدالة على معنى معين, بالوضع أو الاصطلاح, بواسطته نتمكن من التعبير عن أفكارنا داخليا, في شكل حديث نفسي, وخارجيا كأداة للتواصل بين الذوات المتكلمة.وهو صناعة يتدرب عليها الإنسان منذ نشأته الأولى, ليعبر عن حاجاته البيولوجية والفكرية . أما ما يعرف بعلم الكلام, أو علم التوحيد, أو علم أصول الدين, أو علم العقائد.فقد ظهر كما يرى الكثير من المفكرين, في بداية القرن الأول الهجري, لضرورة دعت إليها حاجة الذود عن الإسلام, ضد انتشار أفكار مضادة لتعاليم الإسلام الحنيف, نتيجة احتكاك المسلمين بغيرهم من الأمم,والفرق الضالة كالمانوية والزرادشتية والمزدكية والحركات الشعوبية ... التي لا تدين بدينهم,وتكن لهم العداء,وتتربص بهم الدوائر,. ونتيجة الحركة الثقافية المنبثقة عن ترجمة التراث الفلسفي اليوناني . دون أن ننسى , التطور السريع الذي عرفه الواقع العربي ,الإسلامي آن ذاك ,على صعيد النهضة التشريعية, التي أدت إلى انقسام الفقهاء إلى أصحاب رأي, ونقل . وعلى صعيد الخلاف السياسي, المتمثل في مشكلة الخلافة وما نتج عنها من صراع هائل, و مروع عكس الانتماء الاجتماعي, والمكانة المتباينة لكل فريق,وأدى إلى ظهور فرق عديدة, كالمرجئة والخوارج والشيعة والجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية ...وإن كانت هذه الفرق, تبدو للمتتبع أنها لا تختلف إلا في فروع العقائد . أما الأسس فهي محل اتفاق الجميع. فمثلا (جميع الفرق, تؤمن بأن القرآن هو كلام الله ,وتختلف في كونه مخلوق أم منزل.وكذلك بالنسبة لصفات الله تعالى الأخرى ولمسألة الجبر والاختيار والقضاء والقدر... ) أمام هذا التآمر الخطير , والهجمة الشرسة التي تستهدف تقويض الإسلام من الداخل, قبل أن تنقض عليه من الخارج , وجد المسلمون أنفسهم في حاجة ملحة إلى صيانة دينهم وعقيدتهم وشريعتهم ورد البدع وإزالة الشبهات والتصدي لتحديات الضالين المضلين. لم تكن الأمة الإسلامية, وهي في أوج قوتها, لتسمح للسوس أن ينخر جسدها. ولم يكن لأعدائها التقليديين من يهود ونصارى ومجوس... ليسمعوا ولا ليسمحوا بالخطاب القرآني ولا بالحديث النبوي,لأن هدفهم الأساسي في كل زمان ومكان ,هو تقويض هاتين العروتين ,لأن الإسلام بهما ,ولا إسلام بدونهما. ومن ثم كان على المسلمين ,أن يبحثوا في أصول عقائدهم ,وأن يقارعوا الحجة العقلية, بحجة عقلية ,وبرهانا, ببرهان مواجهة , و مجارات أعدائهم في استعمال العقل , والمنطق . خصوصا وأن المسلمين, وجدوا في الكتاب والسنة, المبادئ والأسس التي تدعو إلى العقل وتشيد به. ولذلك يعتقد البعض, أن علم الكلام ليس من العلوم المستحدثة في الإسلام, بل ترجع جذوره إلى عهد الصحابة والتابعين.وهناك من الشيعة, من ذهب إلى أن الإمام علي كرم الله وجهه, والأئمة من بعده, هم الذين وضعوا اللبنات الأولى , والقواعد الأساسية لهذا العلم. ومهما يكن من أمر النشأة,فلقد وجد المسلمون ضالتهم في علم الكلام, باعتباره محاولة للتصدي للتحديات المفروضة عليهم, عن طريق الأدلة اليقينية, المبنية على العقل ,المستندة إلى المنطق. كما مكنهم من إثبات العقيدة بالبرهان والحجة وإبطال كل شبهة تثار حولها. أما سبب تسمية هذا العلم , ففيه خلاف كثير. نذكر بعضه للاستئناس فقط: يرى البعض أن التسمية مأخوذة من أعقد مسألة عقائدية, طرحت في الإسلام. كانت لها انعكاسات سياسية, كادت أن تذهب بالخلافة. وهي مسألة كلام الله عز وجل . هل هو قديم أم محدث ؟ أي هل القرآن باعتباره كلام الله, منزل, أم مخلوق كسائر المخلوقات ؟ بينما يرى آخرون ,أن التسمية مأخوذة من قولهم: تكلم الخلف فيما سكت عنه السلف . وهناك رأي آخر يقول أن التسمية ناتجة عن كون المشتغلين بعلم الكلام, كانت صنعتهم الكلام والجدل, وموضوع خلافهم كان صفة كلام الله تعالى. وكما اختلف المفكرون في تسمية علم الكلام ,اختلفوا في تعريفه. فهذا ابن خلدون يعرفه بقوله :{ علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات, عن مذاهب السلف وأهل السنة.} (المقدمة الجزء الثالث تحقيق علي عبد الواحد وافي ص 1169) ويرى الغزالي أن علم الكلام سمي كذلك .{لما نشأت صنعة الكلام ,وكثر الخوض فيه ,تشوق المتكلمون إلى محاولة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور ,وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها} (المنقذ من الضلال فصل علم الكلام ط 72ص 7بيروت ). و الفارابي يتحدث عن علم الكلام باعتباره صناعة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة وتزييف كل ما خالفها من الأقاويل.أما التفتزاوي فيذهب إلى أن{علم الكلام هو العلم بالعقائد الدينبة اليقينية}(تهذيب الكلام ص8 للإمام سعد الدين التفتزاني.) صحيح أن علم الكلام أدى إلى انقسام المسلمين عقائديا وفكريا , فكانت النتيجة ظهور العديد من الفرق الإسلامية ,التي مازالت تتوالد إلى يومنا هذا. وصحيح أن بعض الفقهاء, حرم الاشتغال بعلم الكلام كالإمام الشافعي, الذي يروى عنه أن قال :{ لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ماعدا الشرك (وفي رواية ماخلا الشرك) خير له من أن يلقاه بعلم الكلام ( وفي رواية أخرى) بشيء من هذه الأهواء}(تبيين كذب المفتري ص377) .ويروى أيضا أن أحمد بن حنبل بدعه وأنه قال لا يفلح صاحب الكلام أبدا.ويذهب البعض إلى أن ابن عباس رضي الله عنه أنه روى عن النبي ص الله عليه وسلم أنه قال :{ تفكروا في كل شيء ,ولا تفكروا في ذات الله .} ولكن ذلك كان شرا لا بد منه لأن الهجمة كانت شرسة , والمستهدف كان الإسلام, وركيزتيه القرآن والسنة . مهما قيل عن الضر وف والملابسات التي أفرزت علم الكلام,فإن نشأته ,في تصوري ,كان وراءها واقع اجتماعي وسياسي,على الرغم من أن موضوعه الأساسي, كان دائما ,ا لبحث في أصول ا لعقيدة والدين . لقد اكتوى علماء الكلام, باعتبارهم جزءا من المجتمع, يتأثرون ويؤثرون فيه, وباعتبارهم ضمير الأمة ومنضريها, بنار الصراع الديني و السياسي والاجتماعي والاقتصادي.فلم يكن بوسعهم, تجاهل هذا الكم الهائل من الخلاف الدائر في مجتمعهم . لأنهم من خلال تلك الصراعات, يستمدون قوتهم السياسية, وهيبتهم الدينية ,ومكانتهم الاجتماعية. فعلم الكلام إذا لم يكن علما تجريديا , يهتم بالغيبيات ويغيب الواقع , بل كان علما واقعيا, يساهم في معالجة مختلف القضايا ,التي كانت تشغل بال الأمة وتؤرقها. لقد وقف علماء الكلام في وجه الغزو الثقافي الأجنبي, والفكر الإلحادي المادي, وأبطلوا مشروعه الرامي إلى تقويض أركان الإسلام, والقضاء على الأمة الإسلامية ,في مهدها . كما فندوا آراء الفرق الضالة, بالعقل والنقل, وحاولوا تنقية العقيدة من كل الشوائب والانحرافات, والرجوع بها إلى النبع الصافي , وساهموا في نشر الوعي العقلاني والفهم الموضوعي, المنطقي بين شرائح المجتمع. وفي العصر الذي نعيشه , ظهرت مجموعة من المفاهيم والمواضيع المتنوعة, كالهجرة والتكفير والإرهاب والعولمة, وما أفرزته من إرهاب فكري وثقافي واقتصادي وسياسي ,ودعوة إلى الإباحية الجنسية بكل أنواعها, من السحاق إلى اللواط ,إلى زنا المحارم , أو الزواج بالأخت والإنجاب منها (حدث ذلك أخيرا بألمانيا ) , وانتشار العري والسياحة الجنسية, وكذا أنواع المحرمات الأخرى كالربا والقمار والخمر والمخدرات بكل أنواعها , وظهور فرق دينية لم يعرفها التاريخ من قبل .كعباد الشيطان , وعباد فرج المرأة ... وشيوع الانتحار , والقتل الرحيم , والإجهاض , والتفنن في سجن العباد وتعذيبهم ظلما وعدوانا ( سجن أبو غريب, وجواتنامو نموذجا). والدعوة إلى محاربة الإسلام, والتشكيك في مبادئه, والسخرية من رسوله, والاعتداء على القرآن, بأشكال التدنيس المختلفة, من الرفس بالأرجل, إلى إلقائه في دورات المياه, إلى تحريف آياته ,أو منع تلاوتها ولا سميا تلك التي تتحدث عن بني إسرائيل ... أمام هذا الكم الهائل من الشر, الذي يهدد الإنسانية في وجودها, أصبحت الحاجة ماسة إلى علم كلام جديد, لا يدور في فلك الغيبيات ,بل يتحرك في عالم الواقع والشهادة ,و يتسلح بعلم الاتصال والإعلاميات, وكل ما من شأنه, أن يؤدي إلى تواصل مبني على العقل والمنطق ,دون تجاوز احترام آراء الآخر ,والاختلاف معه . وبهذا يتمكن العلماء من مواجهة الخطر الداهم , وكسب احترام القريب والبعيد, وفي نفس الوقت, خدمة الدين بشكل فعال ومنتج,والعمل على نشره , والدفاع عنه . إننا في كل عصر محتاجون إلى الرجوع إلى الأصول, أو المنابع الأولى,الثابتة بالوحي الإلهي ., حتى لا نقع في أسر قدسية الماضي أو أخطائه, وحتى تكون رؤيتنا واضحة, فلا ننحرف عن النهج القويم,.وبناء على هذا التصور نحدد علاقتنا مع الله, فنعبده ونوحده, ولا نشرك به شيئا, باعتباره هو الخالق ,الرازق, والرقيب علينا , ولا أحد سواه يفعل ذلك . ونتعامل مع العالم على أساس الواقعية , فنؤدي الأمانة الكبرى, بتحقيق الخلافة في الأرض, وإنشاء الحضارة ولكن في ضل الوحي ,وبمباركته . أما علاقتنا مع الإنسان فيجب أن تقوم على الموازاة بين الجانب الروحي والجانب المادي , دون أن نسمح بطغيان أحدهما على الآخر. **كاتب مغربي