كانت بداية تعرفي ثقافيا ومعرفيا بالدكتور عماد الدين خليل استاذ الدراسات العليا في عدد من الجامعات العربية، وفي كلية الاداب بجامعة الموصل، كان تعرفي عام 1991، يوم اقتنيت كتابه المعرفي الفخم (التفسير الاسلامي للتأريخ) الصادرة طبعته الرابعة المراجعة عام 1986، وكتاب في العراق، او الوطن العربي يطبع طبعة رابعة ظاهرة تجلب الانتباه وتشير الي انك ازاء عقل مفكر وقلم مغاير للسائد والمألوف وبقيت اتواصل روحيا مع ما احظي به من دراساته وبحوثه واقر هنا ان ماحظيت به كان قليلا، وكثيرا ما رجعت الي كتابه هذا (التفسير الاسلامي للتأريخ) اقرأ فيه وانهل. لكن المصادفة الجميلة او الموافقات الجميلة كانت وراء مشاهداتي لعدة حلقات من برنامج (مراجعات) الذي تبثه قناة الحوار الثقافية المعرفية الرصينة فسعدت حقا ايتما سعادة وافدت ايتما فائدة، فأنا قليل المشاهدة للتلفزيون لاني اراه مضيعة للوقت وانا مثلما قال سانت بوف الناقد الفرنسي المعروف، صاحب مقولة (الاسلوب هو الرجل) ليس عندي وقت للفراغ، ففي يوم الاثنين من كل اسبوع ارفع رأسي قليلا وقت الظهر واتنفس ساعة او ساعتين ثم يغلق الباب اسبوعا مستغلا وقتي استغلالا امثل، فاتابع بعض البرامج مثل برامج (ابواب) و(سيرة مبدع) و(قريب جدا) من قناة الحرة كذلك برامج (مراجعات) و(مقابسات) و(لقاء في الثقافة والادب) من قناة الحوار اسبوعيا لذا سعدت وانا اشاهد حديث الدكتور عماد الدين خليل، فكانت مائدة مكتنزة بالمعرفة والتاريخ والفلسفة والادب ولقد كنت المح علائم الانبهار والاعجاب علي محيا مقدم البرنامج الدكتور عزام التميمي وهو يحاول اللحاق بهذا الشهاب البارق الساطع علما وتاريخا وفلسفة، كتابة وقراءة وبحثا وتدريسا ومتابعة للرسائل في الماجستير واطاريح الدكتوراه، كل هذا الانشغال لكن هذا الفيلسوف ما ترك هواياته البريئة، فهو كما اوضح عاشق للكرة، كرة القدم الاوربية ومتابع لمباريات الدوري الاسباني والانكليزي، فلله دره. ما يميز هذا العالم الدكتور عماد الدين خليل، صفة الوسطية والانصاف، هو حتي اذا تحدث عمن نقله من الجامعة سابقا لان فكره الاسلامي كان يتقاطع مع الفكر السائد، لايتعسف ولا يتهم، بل يشكر من نقله من الجامعة الي المتحف، فأستغل فراغه اجمل استغلال، قراءة وبحثا وكتابة، فأخرج العديد من الكتب الرصينة. واذ ييمم وجهه شطر جامعة صلاح الدين في الشمال العراقي، فانه يشكر للكرد اخلاقهم وكرمهم ومعاملتهم الحسني، رائيا ان ما يجمعنا واياهم هو الاسلام، واذ يحاول مقدم البرنامج الدكتور عزام التميمي، طعن الدولة الفاطمية، فانه يقاطعه قائلا انهم قدموا لمصر وللمسلمين في بداياتهم جلائل الاعمال، اما في اخريات ايام دولتهم، فانه يعيب عليهم تلك المراسلات مع الفرنجة لدرء شرهم باقتسام بلاد الشام بين الطرفين، باعطاء سورية ولبنان للفرنجة لقاء احتفاظ الفاطميين بالبلاد المقدسة، ورفض الفرنجة ذلك لانهم انما جاءوا للاستحواذ علي بيت المقدس. كانت صفة الانصاف والوسطية، شاملة افكار واحاديث المفكر الفيلسوف الدكتور عماد الدين خليل. تحدث بحميمية عن الخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز، الشاب المترف الانيق الذي ما ان آلت اليه الخلافة، حتي شمر عن ساعد الجد، ليعيد للخلافة اسلامها وللاسلام خلافته، واقفا عند ملامح الانقلاب الاسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز الذي اجمع المسلمون علي عدله ونزاهته وتقشفه، كان له من العمر سبعة وثلاثون عاما، لكن مما يؤسف له ان لاتمتد سنوات حكمه كي يعيد للخلافة اسلامها بعد ان تحولت الي ملك عضوض، تري هل اغتيل عمر بن عبد العزيز؟ هل سُمَّ؟ ولما يبق في الحكم سوي سنتين وثلاثة اشهر (99 101 ه) وقبره ما زال قائما بين مدينتي حماه وحلب في بلاد الشام الرائعة. المؤرخ الفيلسوف عماد الدين خليل يخبرنا انه الف عنه كتابا اسماه (الرجل والتجربة) وفي الطبعة الثانية اسماه (الرجل وتجربته الاسلامية). يذكر لنا الباحث عماد الدين خليل، حادثة موحية طريفة، فاذ انتصر نور الدين محمود في احدي معاركه ضد الفرنجة، يسجد لله شاكرا، واذ ينهض مزيلا الاتربة عن وجهه المعفر بتراب الارض حيث كان يصلي يأتيه قاضي القضاة الشيخ النيسابوري مادحا متملقا، قائلا له: لولاك لما انتصرنا في المعركة، كان يتوقع هذا القاضي المنافق بأن قولته ستسر نور الدين محمود ويأخذها مأخذاً حسناً، لكن يصعقه الجواب الصادر عن نور الدين محمود: من هذا نور الدين الكلب؟ قل لولا الله لما انتصرنا فلله هذه الرجالات وهذه النماذج المشعة المتألقة ، التي لايطربها الا الحق الخالص والعدل في انصع صوره. يخبرنا فيلسوف التاريخ الاسلامي عماد الدين خليل انه يعمل علي انجاز اكثر من كتاب، وانه بصدد جمع المادة اللازمة لاصدارها: اولها كتاب (آيات قرآنية تطل علي العصر) وثانيها (احاديث نبوية تطل علي العصر) وثالثها (الخطاب الثنائي في القرآن الكريم) كما انجز كتاب (الفقه والحضارة) و(مدخل الي الحضارة الاسلامية) و(الوحدة والنوع في تاريخ المسلمين). لقد كنت وانا اتابع بشغف هذا السيل المعرفي والانهمار الفلسفي اشعر بالاسف لعدم اخذ علمائنا مكانتهم التي يستاهلونها ويستحقونها، كما كنت اشعر بالاعتزاز لانجاب العراق ومدينة الموصل العريقة الزاخرة بالكفاءات والامكانات، اشعر بالفخر والاعتزاز بهذه العقلية الباهرة، النيرة المتألقة، وكنت موزعا بين ان استمتع بهذا السيل المعرفي الهادر، وبين ان اسجل شذرات والتماعات مما فاه به الدكتور عماد الدين خليل وفقه الله. لكن مما اسعدني حقا ان اقرأ في الصفحة الثانية عشرة من صفحات (الف ياء) الزمان الثقافي، عددها الصادر يوم 11 من آذار 2008، ان قاعة ابن الاثير في كلية الآداب بجامعة الموصل، شهدت مناقشة اطروحة دكتوراه موسومة ب(جهود الدكتور عماد الدين خليل في النقد الادبي الاسلامي المعاصر) تقدمت بها (ورقاء محمد قاسم) حيث يعد الدكتور احد اهم المنظرين للادب الاسلامي الحديث ونقده، والكتابة في التأريخ كونه استاذا اختصاصيا فيه، وكانت لجنة المناقشة برئاسة الاستاذة الدكتورة الشاعرة بشري البستاني. ** منشور بصحيفة "الزمان" العراقية 19 أغسطس 2009