الاستعلام عن الأسماء الجديدة في تكافل وكرامة لشهر سبتمبر 2025 (الخطوات)    زيلينسكي: نتوقع الحصول على 2.9 مليار يورو لشراء أسلحة أمريكية    يؤكد ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية بغزة.. مصر ترحّب بتقرير الأمم المتحدة    إيران تدين قرار الإكوادور تصنيف الحرس الثوري ك منظمة إرهابية    موعد مباراة الإسماعيلي ضد الزمالك الخميس في الدوري المصري    وفاة والدة نجم الأهلي الأسبق    صلاح محسن أفضل لاعب في مباراة المصري وغزل المحلة    دييجو إلياس يتأهل إلى نصف نهائى بطولة CIB المفتوحة للإسكواش 2025    عاجل.. قرار هام لوزير التعليم بشأن تطبيق نظام الدراسة والتقييم لطلاب الثانوية    تدهور الحالة الصحية للمخرج جمال عبدالحميد.. اعرف التفاصيل    وئام مجدي بإطلالة جذابة.. لماذا اختارت هذا اللون؟    بإطلالة أنيقة.. رانيا منصور تروّج ل "وتر حساس 2" وتنشر مشهد مع غادة عادل    بتقنية متطورة.. نجاح جراحتين دقيقتين للعظام في مستشفى بالدقهلية (صور)    في خطوتين بدون فرن.. حضري «كيكة الجزر» ألذ سناك للمدرسة    عاجل - الذهب المستفيد الأكبر من خفض الفائدة.. فرص شراء قوية للمستثمرين    تدريب آلاف الطلاب بالجامعات على معايير جودة التعليم بمبادرة «بداية جديدة»    د. آمال عثمان تكتب: هند الضاوي.. صوت يقهر الزيف    العمل تعلن وظائف جديدة في الأردن بمجالات صناعة الكرتون والشيبسي    700 فصل و6 مدارس لغات متميزة جديدة لاستيعاب طلاب الإسكندرية| فيديو    بوتين يبحث هاتفيًا مع رئيس وزراء الهند الأزمة الأوكرانية وتطورات العلاقات الثنائية    لأول مرة.. ترشيح طالب مصري من أبناء جامعة المنيا لتمثيل شباب العالم بمنتدى اليونسكو للشباب 2025    صورة - الرئيس الكازاخي يكرم مفتي الجمهورية ويمنحه وسام الشرف    "أطباء بلا حدود": إسرائيل تمارس العقاب الجماعي على أهالي قطاع غزة    "الأرصاد": أمطار غزيرة على منطقة نجران    دينا تطلق أول أكاديمية متكاملة لتعليم الرقص الشرقي والفنون في مصر    هل الحب يين شاب وفتاة حلال؟.. أمين الفتوى يجيب    ما حكم كثرة الحلف بالطلاق؟.. أمين الفتوى يجيب    اختلت عجلة القيادة..مصرع شخصين بمركز المراغة فى سوهاج    أرتيتا يتفوق على فينجر بعد 25 مباراة في دوري أبطال أوروبا    حقيقة اختفاء 5 قطع أثرية من المتحف اليوناني في الإسكندرية    أيمن عبدالعزيز يعلن تمسكه بعدم العمل في الأهلي.. وسيد عبدالحفيظ يرد    كيليان مبابي يعلن غيابه عن حفل الكرة الذهبية 2025    إصابة شاب بإصابات خطيرة بعد أن صدمه قطار في أسوان    مدارس «القليوبية» تستعد لاستقبال مليون و373 ألف طالب    فوائد السمسم، ملعقة واحدة لأبنائك صباحا تضمن لهم صحة جيدة    إحالة شكاوى مرضى في وحدة طب الأسرة بأسوان للتحقيق    بعد نشر صورة مع جدها الفنان محمد رشدي.. من هي البلوجر فرح رشدي؟    خالد الجندى: الإنسان غير الملتزم بعبادات الله ليس له ولاء    80%ملكية أمريكية.. ملامح الاتفاق الجديد بين الولايات المتحدة والصين بشأن "تيك توك"    عاجل- رئيس الوزراء: مصر ثابتة على مواقفها السياسية والإصلاح الاقتصادي مستمر رغم التحديات الإقليمية    ضبط المتهم بذبح زوجته بسبب خلافات بالعبور.. والنيابة تأمر بحبسه    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 17سبتمبر2025 في المنيا    هل يجوز لى التصدق من مال زوجى دون علمه؟.. الأزهر للفتوى يجيب    مفتى الجمهورية: ما يجرى فى غزة جريمة حرب ووصمة عار على جبين العالم    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد    ڤاليو تنفذ أول عملية مرخصة للشراء الآن والدفع لاحقاً باستخدام رخصة التكنولوجيا المالية عبر منصة نون    تحديث بيانات المستفيدين من منظومة دعم التموين.. التفاصيل    المنيا.. تنظيم قافلة طبية مجانية في بني مزار لعلاج 280 من المرضى غير القادرين    شاب يلقى مصرعه حرقًا بعد مشادة مع صديقه في الشرقية    ننتهج استراتيجية تعتمد على الابتكار والرقمنة.. وزير الري: نصيب الفرد من المياه لا يتجاوز 560 متر مكعب سنويًا    هيومن رايتس ووتش تتهم إسرائيل بتهجير السكان قسريا في سوريا    بن عطية يفتح جراح الماضي بعد ركلة جزاء مثيرة للجدل في برنابيو    "البديل الذهبي" فلاهوفيتش يسرق الأضواء وينقذ يوفنتوس    "جمعية الخبراء" تقدم 6 مقترحات للحزمة الثانية من التسهيلات الضريبية    قبل ما تنزل.. اعرف الطرق الزحمة والمفتوحة في القاهرة والجيزة اليوم    «عبداللطيف» يبحث مع وفد مجلس الشيوخ الفرنسي تعزيز التعاون المشترك في مجالي التعليم العام والفني    حركة القطارات | 90 دقيقة متوسط تأخيرات «بنها وبورسعيد».. الأربعاء 17 سبتمبر    رانيا فريد شوقي تستعيد ذكريات طفولتها مع فؤاد المهندس: «كان أيقونة البهجة وتوأم الروح»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن تولستوي - كرم الطبيعة وجشع الإنسان / أميل سيوران
نشر في محيط يوم 08 - 07 - 2009

الأقدم بين كل المخاوف... عن تولستوي - كرم الطبيعة وجشع الإنسان
** أميل سيوران
أظهرت الطبيعة كرما لكن ليس للجميع بل فقط للذين حررتهم من التفكير بالموت. أماالباقون فجعلتهم فريسة الخوف الأقدم والأكثر تدميرا ومن دون أن توميء لهم، ولا حتي الإيحاء لهم، الي سبيل الشفاء منه. وبقدر ما يكون الموت شيئا طبيعيا ليس بالطبيعي تذكره اللحوح والتفكير به في كل مناسبة.
ومن لا ينساه للحظة واحدة يعطي الدليل علي الأنانية والفراغ: إنه يحيا عبر الإحالة الي صورته في عيون الآخرين، وليس بمستطاعه قبول فكرة أنه في يوم ما سيكون لا شيئا. إن كابوسه الدائم هو النسيان، إذن هو عدواني حاد اللسان ولن يفوّت الفرصة كي يستعرض مزاجه السيء وتصرفات كهذه. ألا يخلو كل هذا من الأناقة - الخوف من الموت؟ إن هذا الفزع الذي يحفر في نفوس الناس الطموحين لا يعترض طريق الأنقياء بل يلامسهم فقط لكنه لا يقدر علي مسكهم. يستسلم له الآخرون عن كراهية ويحقدون علي كل من لا يشعر به. مثلا تولستوي لن يغفر أبدا لهؤلاء السعداء الذين لا يعرفوا هذا الخوف، وهو يعاقبهم واصفا إياه بدقة ٍ يصبح بسببها منفرا ومُعديا، أما فنّه فسيكون معتمدا علي أنه من كل الإحتضارات سيبقي جوهر الإحتضار، والقاريء المفزوع والمدوَّخ سيكررعلي نفسه القول: إذن هكذا يموت الإنسان! "
يقتحم المرض عالما ذا إكسسوار متفق عليه وقابل للإستبدال، يحيا فيه إيفان إيليتش. وبصورة تلقائية يفكر بأنه مجرد توعك وقتي، إنزعاج قليل الأهمية، ولكن فيما بعد وتحت عبء المعاناة الأكثر وضوحا وأذي، والتي لاتطاق في الأخير، يأخذ في إدراك وضعه الخطير ثم تنهار روحه. (أكثر ما أراده إيفان إيليتش في لحظات معينة وبعد آلام طويلة، رغم خجله من الإعتراف، أن يرثي أحد لحاله كما يرثي لطفل مريض. أراد أن يقوم أحدهم بتدليله، أن يقبله ويبكي قليلا عليه تماما كما يحصل تدليل الأطفال وإمتاعهم. كان يعرف بأنه موظف كبير ويملك لحية شمطاء وبأن ذلك أمر غير ممكن لكن رغم كل شيء أراده). القسوة، وعلي الأقل في الأدب، هي علامة الإختيار.
وكل ما كان الكاتب أكبر قدرة مال أكثر الي حشر أبطاله في أوضاع بلا مخارج: يلاحقهم، ويطغي عليهم ، ويسوقهم في شتي أنواع الطرق المقفلة والإحتضارات. وحتي القسوة ليست بالكافية بل الوحشية المفترسة كي تحصل متعة تصوير المصاب بمرض عضال في محيط من العادية والحرص علي أدق تفاصيل الخوف الذي نشأ بإسهام شخص عاد ٍ نزل به الشقاء. (لكنه شعر فجأة بألم معروف، قديم ، أصم ، بارح، لحوح ، ساكن وخطير ". وتولستوي البخيل في إستخدام النعوت يطرح هنا سبعة كي يصف التجربة التي هي مؤلمة حقا. الجسد يظهر كواقع هش لكنه مفزع كموّزع كبير للمخاوف، وكان تولستوي محقا حين جعلها نقطة إنطلاق عند تحليل ظاهرة الموت. لا شيء علي الإطلاق ولاحلّ في دائرة المطلق بمعزل عن أجهزتنا الجسمية ومتاعبنا. أمن الممكن تسليم الروح والإنسان مسمّر في النظام؟ أو يتعرض للتفسخ؟ في الميتافيزيقا لا مكان للجثث. وفي الأخير لامكان فيها للإنسان الحيّ. وكلما نصبح تجريديين ولا شخصيين - سواء أكان ذلك بسبب المفاهيم أوالأحكام المسبقة (الفلاسفة والعاديون يتمرجحون علي السواء في اللاواقع) - يبدو لنا غير قابل للفهم ، والي درجة أكبر، هذا الموت المقترب. ولو لم يكن المرض لما إمتلكت هيئة إيفان إليتش الإنسان المسمي بالعادي، أيّ وضوح ولا إتساقا consistence. والموت بالذات يمنحه بعدا وجوديا حين يدمره. وفي القريب سيكون هو لاشيء، مجرد فسحة بين فراغي الصحة والموت، وطالما يموت يكون ذا كينونة. وأي شيء كانه قبلها؟ دمية تطارد الأشباح، موظفا مؤمنا بعائلته ومهنته. وبعد شفائه من أحوال الزيف والأوهام ها هو يفقه بأنه لغاية ظهورالمرض أضاع الوقت في التفاهات. وما بقي له من سنين كثيرة هو هذه الأسابيع القلائل المليئة بالعذاب والتي يظهر أثناءها المرض كواقع لم يحصل قبلها التحسس به. الحياة الحقيقية تبدأ وتنتهي بالإحتضار - هذا درس ناتج عن إعاشات إيفان إيليتش، وبريكونوف في (السيد والخادم)1. ولأن ما ينقذنا هو موتنا نحتفظ في نفوسنا بحكم مسبق علي لحظاتنا الأخيرة التي هي وحدها، برأي تولستوي، تحررنا من الخوف، وبفضلها حسب ننتصرعليه. إن هذا الخوف هو جرحنا النازف، وإذا أردنا شفاءه علينا أن نكون صبورين، ولننتظر. القلائل من الحكماء يقبلون بمثل هذا الإستنتاج، فعند السعي الي كسب الحكمة تأتي الرغبة الآن ومن دون تأخير، في دحر تلك المخاوف.
وفي الحقيقة إنشغل تولستوي دائما بقضية الموت إلا أنها صارت القضية التي عذبته بعد الأزمة التي مر بها في عمر الخمسين حين أخذ مذعورا يسأل النفس عن (معني) الحياة. غير أن الحياة تنهار وينفك إسارها وتقحل كما تلقي ضوءا معينا علي طبيعتها وقيمتها ومادتها الهزيلة المشكوك فيها وذلك في اللحظة التي يتعبنا فيها هاجس معناها المزعوم. هل علينا الأخذ بماقاله غيته Goethe عن أن معني الحياة يكمن في الحياة نفسها؟ ومن تعذبه هذه القضية لايقبل تماما مثل هذا القول، ولسبب بسيط هو أن بداية هاجسه هي بالضبط ظهور لامعني الحياة.
جرت محاولة إيضاح الأزمة و(الإنقلاب العقائدي) عند تولستوي، بنفاد موهبته. وهذا الإيضاح بالغ الضعف، فأعماله من الفترة الأخيرة مثل (موت إيفان إيليتش) و (السيد والخادم) و(الأب سيرغي) و(الشيطان) تملك الكثافة والعمق، وهذان لما إمتلكهما العبقري التي ذبلت موهبته. وفي حالته ليس الأمر متعلقا بالقحولة بل بتبدل مركز الإهتمام. فحين أنصرف عن وصف حياة البشرالخارجية طمح في رؤيتهم حين إضطرارهم الي قطع الصلة، وتحت تأثير أزمة ما، بالأوهام التي كانوا قد عاشوا فيها من قبل. وفي هذا الوضع لم يستطع أن يكتب روايات كبيرة. إن الحلف مع المظاهر الخداعة والذي عقده كروائي، ينهيه الآن ويمزقه كي يتوجه صوب الجانب الآخر من الأشياء. والأزمة التي دخلها لم تكن غير منتظرة ولا عميقة كما خيل له حين كتب: (حياتي توقفت). تلك الأزمة لم تكن أمرا مفاجئا البتة بل كانت تتويجا وتأجيجا للخوف الذي كان ينهكه دائما. و(موت إيفان إيليتش) تنحدر من عام 1886 لكن جميع عناصرها الرئيسية توجد كبذرة في (ثلاثة موتي) من عام 1859. الفارق هنا أن خوفه السابق - وكان طبيعيا إذ لم يكن بالغ الشدة - كان من الممكن تحمله في حين أن الآخر الذي مر بتجربته فيما بعد لم يطقه كثيرا. وفكرة الموت التي أقلقته منذ الطفولة لاشيء فيها مَرَضيا، أي علي عكس الحال مع الهاجس الذي هو تعميق غير مشروع لتلك الفكرة التي أخذت حينها تلقي علي الحياة بتأثيرمشؤوم حقا. وهذا من دون شك حقيقة إذا رضخ المرء لوجهة نظر الحياة... لكن ألا يمكن أن ُيفرض علي الحقيقة مثل هذا المطلب كي ترفض أمام الوجود المطلق للموت أيّ نوع من التنازلات، التفرقات بين المعيار norm والمرض؟ وإذا كان المهم وحده هو حقيقة الموت ينبغي إستخلاص النتائج منها وليس إشغال الرأس بتمحيصات أخري. وهذا الرأي لا يتفق معه من يندبون بلا إنقطاع (أزمتهم) - الحالة التي هي الهدف من جهود كل متوحد حقيقي يترفع عن القول: (حياتي توقفت)، إذ أن هذا ما يقصده ويعمل للوصول إليه. هكذا كانت الحال مع تولستوي الموسر المشهور والسعيد في نظام العالم، والذي أخذ ينظر بهلع الي تهاوي كل مؤكداته القديمة ويجهد عبثا في أن يطرد من ذهنه ظهور العبث الذي بدأ بسحقه. وما يدهشه ويصدمه أنه هو البالغ الحيوية (قال بنفسه إنه يقدرعلي العمل ثمان ساعات ومن دون أن يشعر بالتعب، وفي حصده بالمنجل كان يضاهي الفلاحين) عليه أن يلجأ الي الخداع كي يعرّض نفسه للموت. الحيوية ليست وعلي الأقل عقبة أمام الإنتحار، فكل شيء يعتمد علي الميل سواء أكان موروثا أو مكتسبا. وفي الأخير قال هو نفسه إن القوة التي تدفعه الي الدمار الذاتي كانت شبيهة بتلك التي شدّته قبلها الي الحياة، مع فارق واحد، وكما قال، هو أنها الآن مضت بإتجاه معاكس.
الميل الي البحث عن نواقص الوجود، وخطر الخراب بسبب المغالاة في الفطنة، الإنهيار والفقدان - هذا كله غير مكتوب علي الضعيف، فكل طبيعة قوية تظهر صالحة بشكل ما لهذا الأمر، فإذا حصل نزاع مع النفس تلقي هذه الطبيعة بكامل زخمها فيه وُتوقدها. إنها هي التي تخضع للأزمات، وعلينا رؤية العقاب في هذا المكان إذ ليس بالطبيعي أن كامل طاقتها تصبّ في الإنقضاض علي الذات. وإذا كان هناك من وصل قمة النجاح المهني وبدأ يسحقه ثقل الأسئلة التي لم تلق أجوبة أوأنه وقع ضحية الصدمة الغبية ظاهريا حسب لكنها في الحقيقة تملك أسسا خطيرة مبرّرة - تماما كالتي هيمنت علي تولستوي حين كان يكرر مذعورا علي نفسه ولغاية الإنجماد: (لماذا؟) و (ماذا بعد؟).
الآمال المُجَّمَعة
وكل من إمتلك تجربة مماثلة لإعاشات أكليستياستيس / كاحال سيتذكرها علي الدوام. والحقائق التي سيستقيها من تلك التجربة لاتحتمل النقاش، وبالقدر نفسه لايمكن إستخدامها - إنها تفاهات، بديهيات مدمرة للتوازن، كليشهات تقود الي الجنون. وهذا الحدس بباطل كل الأشياء، المتعارض جيدا مع الآمال المُجَّمَعة في (العهد القديم)، لم يوهب لأيّ أحد من المعاصرين وبنفس الدرجة كما لتولستوي.
وحتي فيما بعد حين أخذ دور المصلح لم يكن بمقدوره الردّ علي سليمان الذي كان يملك معه مثل هذا القدر من الصلات - ألم يكن كلاهما حسيّا كبيرا يعارك إشمئزازه من العالم كله؟ إنه نزاع عصي علي الحل، تناقض داخلي للمزاج قد تلد منه رؤيا ذلك الباطل vanitas. فكلما كان ميلنا أقوي الي التلذذ بكل شيء، يعمل الإشمئزاز بسعار أكبر كي يعيق خطوتنا. (سوف لن تملك الفرح بأي شيء) - هذا هو الأمر الذي نسمعه منه عندما ننساه. للوجود ذائقة في حالة واحدة فقط وهي حين نبقي في نشوة خالية من المضمون، في حالة تخدّر يحرم فقدانها الوجودَ من كل صفة إيجابية.
وحين يؤكد تولستوي لنا أنه كان قبل الأزمة (سكرانا بالحياة)، علينا أن نفهم هذا بهذه الصورة وهي أنه ببساطة كان يحيا، أي أنه سكر بالحياة شأن كل حيّ، ولأنه بالضبط يحيا. لكن ها قد جاءت الصحوة بهيئة النحس fatality. ما العمل؟ نحن نملك جميع الأسباب كي نكون سكاري لكننا نعجز: نحن خارج قوس الحياة رغم إمتلاكنا القوي كلها، ونحن لا نشارك الآن فيها. نحن نتغلغل في كل أنحائها ونري لا فعليتها، فالصحوة هي الرؤية بوضوح، هي الإستيقاظ. والي أي شيء نستيقظ إن لم يكن الي الموت؟
أراد إيفان إيليتش أن يرأفوا بحاله، وتولستوي المثير للشفقة وأكثر من بطله، يقارن نفسه بفرخ الطير الساقط من العش! ودراماه تثير التعاطف رغم أننا لا نقدر قبول أعذاره التي يطرحها بشكل إيضاحات. والجزء (السلبي)عنده مثير للإهتمام الي حد أبعد من الجزء الآخر. وبقدر ما تنبع الأسئلة من أعماق جوهره تكون الأجوبة في حالة أخري.
أحوال القلق التي مر بالكاد بها أثناء الأزمة كان ممكنا تحملها، وهذه حقيقة، لكنه بدل أن يحاول، وعلي الأقل، التخلص منها نراه يفضل إقناعنا بأن صفة الأغنياء والكسالي، وليس الموسيقيين أبدا، هي أن تلك الأحوال لا تملك أيّ أهمية. وبأوضح صورة لا يثمن هو مزايا الرفاهية التي تمكن من الإكتشاف الذي حُرم منه الفقر. للشبعي والضجرين تتكشف حقائق معينة توصف، ومن دون حق، بالزائفة أو المبالغ فيها والمحتفظة بالقيمة وحتي حين ندين أسلوب الحياة الذي أولدها.
بأيّ حق ترفض حقائق حكيم (سفرالجامعة)؟ طيّب، علي مستوي الأفعال الحسنة من الصعب قبول خيبة أمله. إلا أنه لا يعتبر الفعلة الحسنة معيارا بل يبقي في موقعه كما يبقي الآخرين في مواقعهم. ولكي يبررالعبادة التي يحيط بها الموجيك / الفلاح يتذكر تولستوي لامبالاته بالعالم، السهولة التي يفرضها علي العالم من دون إشغال الرأس بقضايا غير مهمة. هل هو يقدّرهذا الموجيك ويحبه حقا؟ بالأحري يحسده، فهو يعتبره أقل تعقيدا مما هو في الجوهر. يتصورأنه يوغل في الموت وأنه غوث له وأنه في عاصفة ثلجية يقدم نفسه ك(نيكيتا) في حين أن بريكونوف كان في أقصي القلق. (أيّ سبيل الي الموت هو الأبسط؟) - إنه السؤال الذي هيمن علي حياته كرجل بالغ وعذبه بفظاعة في الشيخوخة. والبساطة التي كان يبحث عنها من دون توقف لم يصل إليها عدا أسلوبه، فهو نفسه كان مخرَّبا في الداخل كي يقوم بتحقيقها. وككل روح معذبة إستعبدتها عذاباتها كان بمستطاعه أن يحب الأشجار والحيوانات، ومن الناس أولئك الذين جعلتهم صفة ما أقرباء لعناصر الطبيعة. وبعد الإحتكاك بهم وعد نفسه (وليس هناك أيّ شك في هذا) بالتحرر من المخاوف القديمة ودخول الدرب المؤدي الي إحتضار يطاق بل وهاديء. أراد بأي ثمن أن يكسب الوثوق والسكينة - وهذا كان مسعاه الوحيد. والآن نري لماذا لم يكن ممكنا السماح بأن يموت إيفان إليتش مشمئزا وخائفا. (بحث عن رعبه السابق العادي من الموت ولم يعثر عليه. أين هو الموت؟ أيّ موت؟ لم يكن هناك أي رعب ولأنه لم يكن هناك الموت.
بدل الموت سطع الضوء.
- إذن الحال هي هكذا! - قالها فجأة بصوت عال - يالها من سعادة!)
هذه السعادة وهذا الضوء لا يقنعان كثيرا، فهما خارجيان، محض لاصقات stickers براقة. بصورة ما يصعب علينا قبول مسألة أنها قادرة علي تبديد الظلمات التي يتخبط فيها، المحتضر، وفي الأخير لاشيء أعدّه الي مثل هذه الإنفعالات التي لا صلة لها البتة بعاديته ووحدته التي وجد نفسه فيها. من ناحية أخري يكون وصف إحتضاره نتيجة دقته الساحقة الي درجة يكون فيها أمرا غير ممكن إنهاؤه ومن دون تغيير اللهجة والمستوي. (إنتهي الموت، ولاوجود له الآن) - قال لنفسه. أراد الأمير أندري أن يقنعها أيضا. (الحب هو الله ، وأن أموت يعني هذا بالنسبة لي أن قطعة من هذا الحب تعود الي الكل الكبير، الي المصدر الأبدي). وتولستوي المرتاب بالهذيانات الأخيرة للأمير أندري وأكثر من أرتيابه بأوهام إيفان أليتش، يضيف هنا: (بدت له هذه الأفكار ُمعّزية لكنها كانت محض أفكار، كان فيها شيء أحادي الجانب، فردي، عقلاني صرف. إفتقد فيها الدليل). للأسف فأفكار إيفان إيليتس تفتقد الدليل. إلا أنه منذ (الحرب والسلام) قطع تولستوي طريقا معيّنا: وصل مرحلة كان عليه أن يخلق فيها، وأيّ كان الثمن، صيغة للخلاص salvation والتشبث بها.ألا يمكن التحسس بأنه حلم ، ولنفسه، بهذه السعادات والأضواء المضافة هنا علي الفور وأنها، شأن البساطة، كان صعبا عليه الوصول إليها؟ كما أنها موضع الحلم الكلمات الأخيرة التي وضعها تولستوي علي لسان بطله عند نهاية الإحتضار.
الحقيقة المفزعة
ومع هذه النهاية (وهي في الجوهر ليست بالنهاية) ومع هذا الإنتصار التقليدي المقصود يكفي مقارنة الكراهية الفعلية والحقيقية التي يكنها البطل لعائلته: (عندما رأي في الصباح الخادم ثم الزوجة وبعدهما الأبنة ثم الطبيب أكدت كل حركة من حركاتهم ، كل كلمة علي الحقيقة المفزعة التي ظهرت له في الليل. رأي فيهم نفسه، وكل ما عاشه، وبوضوح رأي أن كل شيء لم يكن (ذاك)، كل شيء كان خداعا رهيبا و بالغ الكبر يحجب الحياة والموت. وهذا الإدراك كبر وضاعف عشر مرات من آلامه الجسمية. أنّ وتقلب ومزق لباسه. بدا له أن اللباس يخنقه. ولهذا كرههم).
الكراهية تقود الي التحرير، حينها لا نفهم كثيرا إذا عملنا من الإشمئزاز من النفس والعالم قفزة الي منطقة النقاء حيث يصبح الموت مهزوما، (منتهيا). أن تكره العالم و النفس معناه أنك تضع ثقة بالغة الكبر في الإثنين، كما تعني حرمانك من إمكانية التخلص من الأول والثانية. إن كراهية النفس خاصة ً تشهد علي وهم أساسي.
لقد ظن تولستوي، ولأنه كره، بأنه كف عن الحياة في الكذب. لكن الحياة غير ممكنة من دون الكذب علي النفس والآخرين، وقد تكون ممكنة إذا حصل الخيار الآخر: التخلي renunciation (وهذا خيار لم يكن هو قادرا عليه). هكذا كان الأمر معه، إذ أليس هو كذبا القول بأنه حصل دحر الموت والفزع أمامه وفي الوقت نفسه يحصل الإرتجاف؟ وتولستوي الحسّي الذي إتهم حواسه وكان علي الدوام يقف ضد نفسه وبرغبة ٍ يكبح ميوله - راح بحماس غير طبيعي يمضي في طريق معاكس تماما لما كانه هو.
حاجة ما الي تعذيب للذات مازوكيّ دفعته في زقاق مقفل. كان هو الكاتب الأكبر في عصره، وبدل أن ينتهل من هذا ولو القليل من السرور، إخترع رسالة ً - رسالة الإنسان الأمين علي الخير، ومن كل النواحي كانت هذه غريبة علي ذائقته وميوله. بدأ يهتم بالفقراء ويساعدهم ويرثي لحالهم إلا أن شفقته كانت معتمة وفضولية - مجرد شكل لإشمئزازه من العالم. الجهامة التي كانت صفته الرئيسية نلقاها عند الذين يقنعون أنفسهم بأنهم مضوا في طريق زائف وإفترقوا عن رسالتهم الصحيحة، وهم ييأسون لكونهم لم ينضجوا بالعلاقة مع أنفسهم. هو أيضا ، رغم الحصيلة الكبيرة، أمتلك مثل هذا الشعور، كما لا علينا أن ننسي بأنه أخذ في النهاية يعتبرأعماله واهية بل مضرة. لقد خلق عمله لكنه لم يحقق ذاته. جهامته نتجت عن التعارض بين النجاح الأدبي واللامنجز في المنطقة الروحية.
بين الثلاثة المكتئبين الذين كانوا ساكياموني [ بوذا ] وسليمان وشوبنهاور (غالبما ما كان يذكرهم) كان الأول من مضي أبعد ومنه طمح تولستوي في أن يقترب. ولكان قد أفلح لوأن بغضه للنفس والعالم كان يكفيه للوصول الي النيرفانا. عدا ذلك كان بوذا قد هجر العائلة في مقتبل العمر (يصعب هنا تصوره متورطا في دراما زوجية ومترددا في إتخاذ القرار، وسط الأقربين إليه، متجهما وكارها لهم ولأنهم وقفوا في طريق مساعيه الكبري)، بينما كان علي تولستوي أن ينتظر لغاية الهرم كي يجازف ويقوم بذلك الهرب الإستعراضي والمتعب. وإذا كان التعارض بين عقيدته والحياة قد أحزنه بالفعل فهو قد إفتقد القوة كي يواجه ذلك. وإلا كيف ستكون المواجهة التي ترافقها أشواقه المرتَّبة و أعمق حوافزه؟ ولتصورعظم أحوال الحيرة والتردد التي كانت تنهش فيه (وهذا أمر واضح في قصته " الأب سيرغي ") علينا أن نذكر هنا بأن جاهد، خفية، في محاكاة القديسين وأن هذه كانت الأقل حكمة من بين جميع طموحاته. وعند إختياره لنموذج لايلائم للغاية إمكانياته كان لابد من أن يعرّض نفسه لخيبات إضافية. وكم من الوقت قضي مفكرا في هذه الكلمات من (أنشودة السيّد Bhagavadg?t?) والتي تفيد: أن تموت مؤديا واجبك هو أفضل من أن تحيا مؤديا واجبا ليس هو واجبك! ولهذا بالضبط بحث عن الخلاص في دروب غير الدروب المرسومة له، وفي الفترة المسماة ب(البعث) كان أكثر شقاء من قبل. وإنسان له مثل كبرياؤه لم يكن من المفروض أن يرغم نفسه علي أعمال البرّ، وكلما إزداد سعاره للقيام بذلك أصبح أشد تجهما.
وفي الأساس لم يكن قادرا علي الحب لكنه كان ينظر بعين ثاقبة وباردة كالجليد مما يفسر بأنه كان ينظر بقسوة الي كل شيء، وخاصة الي أبطاله. (عند قراءة أعماله لا نرغب ولو لمرة واحدة في أن نبتسم) - سجل هذه الكلمات ناقد روسي في أواخر القرن التاسع عشر. ونحن لن نفقه أيّ شيء لدي دوستويفسكي إذا لم نشعر بأن صفته الرئيسية حسّ الفكاهة. فهو يسمح لنا بإثارة العاطفة ونسيان النفس ولأنه لم يكن باردا أبدا فهو يصل الي تلك الدرجة من الحمي التي يتعرض الواقع فيها الي التحول ويفقد الموت كل معني، فنحن قد تركناه في مكان ما في الأسفل. لقد أنتصر هو علي الموت وأعلن فوزه عليه وكما يليق بمن يمتلك الرؤيا، وبالتأكيد لما إستطاع أن يصف الإحتضار بهذه الدقة الكاذبة التي قصدها تولستوي. وهنا يجدر الإضافة بأن تولستوي هو كلينيكي من طراز خاص، وعلي الدوام لا يدرس غيرأمراضه وحين يشفي منها يضع في هذا كامل عمق فطنته ويقظة مخاوفه.
وغالبما جري هنا التأكيد علي أن دوستويفسكي المريض والعائش في البؤس أنهي الحياة بالتمجيد (الكلام هنا عن بوشكين) في حين أن تولستوي الذي إختاره الحظ، كان عليه أن يموت يائسا. وإذا فكرنا جيدا فأن التعارض بين هاتين النهايتين هي أمر طبيعي تماما. فدوستويفسكي لم يفكر بعد تمردات وتجارب الشباب بشيء سوي أن يخدم. وقد حصل وفاقه وإذا لم يكن مع العالم كله، فعلي الأقل مع بلاده التي قبل جميع مظالمها وقام بتبريرها مدفوعا بإيمانه بأنه مكتوب علي روسيا أن تلعب دورا كبيرا بل أن تنقذ البشرية. والذي كان متآمرا في وقت ما صار الآن ذا جذور وهادئا وبمكنته أن يدافع بصدق عن الكنيسة والدولة. في كل الأحوال كف عن أن يكون وحده. أما تولستوي فعلي العكس: إزدادت وحدته. وغاص في اليأس وإذا تكلم كثيرا عن (الحياة الجديدة) فالسبب هو أن الحياة العادية تفلت منه. والدِين الذي يريد تجديده وفق رأيه إنما يقوم هو بهدم أسسه. وحين يحارب الظلم يمضي أبعد من الفوضويين، وصياغاته مبالغ فيها بالشكلين: الشيطاني والكوميدي.
إن مثل هذا اللاإعتدال البالغ وهذا الرفض المسعور يفسران شيئا واحدا: الإنتقام الروحي الذي لم يقدر أبدا علي التطبع مع إذلال الموت.
** منشور بصحيفة "الزمان" العراقية 8 يوليو 2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.