ألوذ بالجدار ذات السقيفة المتكونة من الصفيح التي تغطي ذلك الكشك الصغير هربا من المطر الغزير الذي اشتد في ذلك المساء ألشتائي.. أعود إلي حافة الشارع كلما أري باص صغير جاء من بعيد عله يقلني إلي بيتي. حزمة من الباصات مرت دون توقف فاهرع عائدا إلي مخبئي تحت تلك السقيفة متحاشيا هطول المطر الكثيف.. جميع الباصات محشوة بالبشر هاربة من غزارة المطر الذي اخذ يغرق الشوارع، وتتقافز قطراته علي سقوف السيارات المارة بسرعة جنونية. فجأة توقف أمامي باص صغير، أومئ إلي شاب كان يجلس بجانب السائق في المقعد الأمامي، بصعوبة بالغة بان لي وجهه من وراء زجاج النافذة من شدة الضباب الذي يغطي الزجاج من الداخل بفعل تنفس الركاب. أسرعت مهرولا باتجاهه حتي استقريت عند باب المقعد الأمامي، هم الشاب بفتحه بقوة، ارتطمت زاوية الباب الحادة المدببة بجبهتي حتي أحدثت شرخا صغيرا في حاجبي الأيسر.. سقطت متراجعا إلي الوراء عدة خطوات من اثر ارتطام الباب بجبهتي، ترجل السائق والشاب مسرعين نحوي وأنا ممتد علي الأرض الملأ بماء المطر.. أحسست بسائل دافئ ينهمر من علي جبيني، تحسسته بيدي بعد أن تمكن المطر مني واحتواني مائه من كل جانب، نهضت بمساعدة الشاب والسائق، انطلق الباص الصغير هاربا من هول المطر.. كي لا استرق النظر من أية زاوية كانت ربطت عيني بمنديل اسود وأحكمت الربط فربما أستطيع التخلص من شدة الصداع الذي بدء يمزق خلايا راسي. تلاشي كل شيء وسط ظلمة حالكة ليس فيها إلا خيوط ضبابية وثمة أجساد ممتدة علي أشبه ما تكون أرض طينية أحياناَ ومعلقة في الهواء أحياناَ أخري.. لم أري غير كتل هلامية ووجوه ممسوخة بدون ملامح. أنها تجربة اتخذتها وقررت الاستمرار بها إلي حين كي أري ما يري الأعمي... أحساس رهيباَ انتابني وكأني علي ظهر سفينة فضائية أجوب عنان العتمة التي هيمنت علي الأجواء التي أصل إليها في رحلتي المتشحة بالسواد... عوالم غريبة تجتازني وأنا مبحر في سفينتي التي تشق عنان العتمة.. لم أتمكن من تحديد أي شيء أو الوصول إلي أية نهاية.. كرات سوداء تكبر وتكبر فألاحقها بنظري حتي تختفي ثم أراها مجددا وبأحجام وأشكال متنوعة.. وجوه تقترب مني حتي تكاد أن تلتصق بوجهي وسرعان ما تختفي مرة أخري.. ذات الوجوه لم تزل بلا ملامح. شوارع وطرقات معلقة بالسماء لم تكن من الإسفلت أو من الحجر قد شيدت.. خطوط حدودها الطولية تخترقني ثم تنفذ من الجهة الأخري من حدود جسدي.. إحساس بالأشياء تلك التي لم أستطيع أن أضع لها أسماء أو مسميات.. كل شيء ناقص إلا من اللون الضبابي.. لم أزل موغل بإصراري وعنادي في البقاء وراء ستار المنديل الأسود.. تنبهت فجأة إلي أني أغوص في مساحات ود واخل جسدي كمسار الدم كي اكتشف مكامن الأسرار فيه.. اخترق الأذرع والساقان وأجوب أحشاء جوف البطن وما فيها من عجب عجاب حتي اصل إلي القاع فتتكشف نتوءاتها وفجواتها بتفاصيل تتغير بين حين وحين وكأني امتطي صهوة أحدي الذرات المتطايرة بأقسي سرعة دون الوصول إلي حدود أو نهايات. لم أعد من سفرتي المخيفة إلا عندما اتكأت علي أحد مقابض الكرسي الذي كنت مندساَ فيه.. أردت أن أجرب خطواتي في الوصول إلي أية جهة ومدي اتزاني وأنا معصوب العينين..تختفي كل الخطوط والأجساد التي كنت غارق في الإبحار بها حينما أهم بأي حركة أريد القيام بها وكأنها كائنات زئبقية.. مررت بين الرواق الذي قد تخزنت صورته بمخيلتي قبل حين.. تمادي عنادي أن لا امسك أو استعين بأي من الجدار الذي يغلف الرواق.. لم تزل مختفية تلك المكونات التي أراها في سكوني ومن خلف ستار منديلي الأسود.. اخترقت الطريق إلي مقصدي وعدت بنجاح دون الاستعانة بأي شيء، كان مروراَ ممل، بعيداَ، أبطء من دبيب سلحفاة. اكتشفت الصورة القديمة للممر الملتصقة بذهني هي سبب نجاحي في مروري دون إخفاقات.. المعضلة هنا بالذي أراه وأنا في خضم العتمة التي أراها ألآن. ممر ضيق وكأني في صندوق صغير جدا، بالكاد أتخلص وأتحاشي ملامسة أضلاعه، خوف ممزوج بالحذر الشديد، اطوي أكتافي علي بعضها وكأني أخاف من أن تجرحني نتوآتها الخنجرية المدببة. شيء رهيب ، لازلت غارقاَ في أمواج بحر الظلمة.. تهادي إلي سمعي صوت ابنتي وهي تسألني إن كنت محتاج إلي مساعدة وترجوني أن أخلد إلي قيلولتي التي أعتدت علي القيام بها كل يوم، لم أشعر بالنعاس ذاته الذي كان يصيبني كلما اقتربت الظهيرة.. جاءني الصوت وكأنه كتلة صلبة ثقيلة علي سمعي كالسهم مخترقا عالمي المتفحم ليغير حركة الخطوط والكتل الهلامية وكأن شيء وخزها فصعقت حتي تلاشي تدريجياَ وقع الصوت وفترت حدته، عادت هذه الخطوط إلي سابق عهدها. تعجبت كثيرا لما يحدث لي، لما أقحمت نفسي في هذا الصندوق المعتم ؟ هل أعود إلي ما كنت عليه فأثور علي منديلي الذي جلب لي ما أنا فيه الآن ؟ أم أحاول الوصول إلي نهايات قد تكون موجودة ؟ إذن أنا خلف المنديل، فكيف للذي يولد والمنديل الأسود يعصب عينيه ؟ تساءلت كثيرا.. حتما لم تكن بمخيلته صورة الممر الضيق ولم يوجد هناك رسم مسبق لصاحبة الصوت.. هل سيعرف لون بشرته أو قياس المسافات والأبعاد ؟ صوت آخر أنطلق باتجاهي سرعان ما امتزجت الخطوط مع بعضها البعض وإصابتها رعشة بقوة الصوت الداخل إلي العالم الكامن وراء المنديل. سأعد لك العشاء، ألم تمل من سكونك هذا ؟ لم أعد الساعات التي أبحرت بها في فضاء الظلمة، نهضت لأقترب من المائدة، حاولوا معي كي ارمي المنديل جانباَ، أصريت علي أن أتناول عشائي وأنا أعمي أمسكت بالملعقة بعد أن عثرت عليها بعد جهد، ربما تكون هذه الملعقة مجرد قطعة حديدية أكلها الصدئ، يا تري هل سأنجح بالوصول إلي الطعام بمعولي هذا؟أم سأكون هزواَ للجميع..؟ أنا متأكد من ما أقوم به، فلن يخيب ضني ولن تكون الهزيمة من نصيبي، أعشق الحق، وأنصف إحساسي المظلوم علي أحاسيسي الظالمة..، لم أترجل من علي ظهر صهوة رحلتي الموبوءة بعوالم خفية من جراء اختبائي وراء منديلي الأسود. لم أسمع أي تعليق أثناء تناولي وجبة العشاء.. صار يقيناَ عندي بأني خضت المعركة بدون خسائر.. اختفي كل شيء من تلك الخطوط والكتل عندما انسليت بكامل ثقل ذهني من الإبحار في غياهب العتمة وانتقالي إلي مائدة الطعام.. عدت مسرعاَ إلي مقعدي ذاته لأكون في قلب السفينة لأرتمي بأحضان الظلمة وخفاياها عاد كل ما كنت أراه إلي مسرح الرقص في الهواء.. شعرت بسلطان النعاس يضغط علي رأسي، وبدء يهوي علي صدري، قبل أن يغلبني، تنبهت إلي أني وراء الحقيقة، رفضت التخفي، رفعت يدي إلي أعلي رأسي منتزعاَ المنديل الشيطاني الأرعن ورميت به بعيداَ، ثأرت للزمن الذي مر وأنا متخفي، لم يوجد لون أحلي من لون الشمس... ** منشور بصحيفة "الزمان" اللندنية 10 مايو 2009