أوراق قديمة، ويوميات بعيدة، وتجارب مرت بها المؤلفة اثناء ممارستها للعلاج النفسي، تلك الفضاءات التي يدور فيها كتاب "رحلتي مع العلاج النفسي، للدكتورة موزة المالكي الحاصلة على اول جائزة تشجيعية لدولة قطر في التربية والعلوم الاجتماعية والنفسية عام 2005، والمرشحة لنيل جائزة نوبل للسلام للعام نفسه. المالكي، التي قدم لها الكتاب الدكتور بشير صالح الرشيدي استاذ علم النفس التربوي بجامعة الكويت ورئيس مجلس امناء مكتب الانماء الاجتماعي بالديوان الاميري، تكشف اسرار المجتمع العربي النفسية، مشيرة الى ان الكثير من الاسر يفضلون حفظ هذه الاسرار في الخفاء نظرا لاننا كعرب لا نفضل مطلقا استعراض تفاصيل العلاقات المنبوذة والمستهجنة والمرفوضة من باب التجمل الاجتماعي، او لدرء التداعيات الاجتماعية اذا ما تحدثنا عنها. وبشير الرشيدي في مقدمته الى ان الكتاب يكشف شخصية مهنية عالية الكفاءة سواء من المنظور المهني او من المنظور الانساني، ويكشف عن خلفية مهنية واعية، وممارسات ارشادية هادفة، في سياق تفاعل صادق مع المهنة والايمان بأهميتها في التغلب على ما يواجهه بعض البشر من مآس وآلام. وتتحدث المالكي تحت عنوان "ذئاب في صورة بشر" عن التجارب الانسانية الاسوأ التي قابلتها في المؤسسات النفسية التي عملت بها في عدد من الدول العربية قائلة: ان الحضارة في ذروة تقدمها تكون لها افرازات نراها نحن – الشرقيين بصفة عامة، والعرب على وجه الخصوص – افرازات بالغة الحضارة، وتضيف: كانت التجربة التي خضتها على مضض هي العمل في مؤسسة العلاج النفسي للاطفال المعتدى عليهم جنسيا من قبل ذويهم، التي تعنى بمعالجة حالات الاجرام الجنسي التي يرتكبها الاب مع ابنته، او الاخ مع شقيقته، او بصفة عامة احد افراد الاسرة على المحرمات عليه شرعا بصورة عدوانية جنسية تثير الاشمئزاز والسخط. وتعترف الباحثة بان مثل هذه التجارب قليلة وانها ليست بحجم غيرها في المجتمعات الغربية، معتبرة ان سيادة الوازع الديني واعتناقنا لشروط تربوية تمثل امام هذه الافرازات سياجا واقيا. وتشرح المالكي ان هذه السلوكيات تستحق عقوبات رادعة وباترة لمنع تكرارها او الحد منها، لكن العقوبات في المجتمعات المتقدمة لا تكفي للردع، بل انها تبيح هذه المحظورات من دون العمل على الوقاية منها، بل تعاملها المؤسسات النفسية على انها حالات مرضية تستوجب التقويم، ولا تقتضي العقوبة. وتعلق المالكي على نظرة المجتمعات المتقدمة لمثل هذه السلوكيات بانها الخطر ذاته الذي يجعل من معدلات هذه الافرازات عاديا ومتفشيا على نحو كبير، وتحكي عن مطالبتها بعقوبات وردود فعل رادعة فتقول: حينما بدأت ممارسة العلم على مضض في هذه المؤسسة رفعت لواء ضرورة سن عقوبات رادعة، تمثل وقاية قبل ان تنهمك المؤسسة في العلاج، ولا تكون الوقاية الا بوضع قوانين عقابية رادعة تنقذ الضحايا من الفتيات والسيدات، وايضا تقوّم النفوس المريضة من الرجال الذين يقدمون على هذه الفعلة اقداما حيوانيا. وتضيف: كان رأيي هذا الذي رفعت لواءه بالمؤسسة مدعاة لاتهامات من مديريها بان هذا التفكير الذي انادي به تفكير ارهابي، وكأن إحقاق الحق والشرع ارهاب، او كأن البحث عن وسائل عقابية تمنع حدوث هذه الافرازات المقززة انتهاك لما يسمى هناك بحقوق الانسان. وتقفز الى ذاكرة المؤلفة قصة فتاتين شقيقتين، امهما مريضة، وقد استغل الاب المريض نفسيا مرض الام، وكان يختلي بالفتاتين الواحدة بعد الاخرى لممارسة الجنس معهما، منذ ان كانتا في السابعة والتاسعة من عمريهما، ولم تدرك الفتاتان ما ألم بهما لظنهما ان ما فعله الاب شيء عادي، فلم يقفز الى مداركهما الغضة ان ما يفعله الاب جرم بالغ، ولم تدرك الفتاتان شيئا عن هذا الجرم الا وهما في الثالثة والرابعة عشرة من عمريهما، أي بعدما اصبحتا مراهقتين، ونمت مدراكهما من خلال علاقاتهما مع الصديقات. وتمضي المؤلفة قائلة: بعد ان عرفت الفتاتان جرم والدهما هرعتا معا الى المؤسسة التي تعمل بها لابلاغ مديرتها بهذا الاعتداء الذي ظل يرتكبه الاب مدة ست او سبع سنوات. وعن دور المؤسسة تقول المالكي: خضعت الفتاتان لجلسات علاجية لمدة شهرين مع فتيات تعرضن لحوادث مماثلة، كما ان الآباء مرتكبي هذه الحوادث خضعوا لبرنامج علاجي آخر في الوقت ذاته بهدف التقويم، ووفقا للبرنامجين فان الآباء يجلسون مع بناتهم بعد ذلك لقياس الآثار العلاجية التي من المفترض ان تكون قد صوبت النفس المريضة للاب وعالجت آثار الاعتداء الذي تعرضت له الفتاة. والكتاب مليء بتجارب خاضتها المؤلفة في العلاج النفسي يمكن ان نعتبرها قراءة في امراض المجتمع العربي النفسية والاجتماعية، التي لا يجب غض النظر عنها، فالمجتمع مليء بالشراسة المتمثلة في انتشار سلوك العض بين الاطفال (والكبار احيانا)، والاحباطات التي تؤدي الى الصمت الاختياري او الانتحار، ومع كل هذا هناك خوف من التردد على مؤسسات العلاج النفسي بسبب الجهل، والخوف من الاتهامات التي تأتي من بشر يعتبرون المرض النفسي وصمة عار تظل لصيقة بصاحبها مدى الحياة. بقي ان للمؤلفة دراسات اخرى مهمة منها: الازمات النفسية العاطفية مشاكل وحلول (دار النهضة العربية للطباعة والنشر – بيروت لبنان 1995)، واطفال بلا مشاكل (دار النهضة العربية 1996)، وعدوانية اقل.. كيف تحول الغضب والعدوانية الى افعال ايجابية (دار النهضة 1997)، ورائحة الاحاسيس (المؤسسة العربية للدراسات والنشر – عمان - الاردن 1998). شادي صلاح الدين ** منشور بصحيفة "القبس" الكويتية بتاريخ 13 يناير 2009