منذ النظرة الأولي للمنطقة وبعد مرور أيام على كارثة إنهيار الكتل الصخرية فوق رؤس أهالي الدويقة تدرك أن فرص النجاة معدومة .. رائحة الموتي تحاصر المكان مما ينذر بكارثة بيئية جديدة تضاف إلى بقية كوارث المنكوبين ستؤدي بدورها إلى وفاة عدد أخر من الغلابة أو على الأقل إصابتهم بالأمراض. محيط – هاني ضوَّه ومحمد كمال عندما وصلنا إلى المكان شعرنا كأن أرواح الموتي الغاضبة تحوم من حولنا .. تريد أن تثأر لمقتلها الغادر والتكاسل في إنقاذهم .. فعمليات الإنقاذ لم تبدأ فعلياً إلا بعد يومين من البطء وانعدام الهمة، ولعل ذلك يرجع إلى عدم وجود مركزاً لإدارة الأزمات يديره عقليات إدارية ماهرة. كانت بداية صداماتنا عند وصولنا هناك هو منع أجهزة الأمن للصحفيين ووسائل الإعلام - غير الحكومية طبعاً - لمتابعة تطورات الوضع، كأن تطويقاتهم الأمنية للمنطقة ومنعهم للصحفيين من نقل الواقع هو ورقة التوت التي ستواري عورة إهمالهم وتقصيرهم، هذا بالإضافة إلى التضييق والمنع كذلك لبعض الجمعيات الأهلية -ماعدا الهلال الأحمر الذي ظهر فجأة بعد مرور أيام- من توصيل بعض المساعدات إلى المنكوبين بكافة الوسائل وبعنف متعمد ضد الشباب الذي يساعد في هذه المهمة. المعدات المستخدمة في رفع الصخور لا تناسب حجم الدمار الذي خلفه الانهيار الصخري، فضلا عن الأوضاع الإنسانية المتردية أصلا في الحي .. لم نجد بداً للهروب من التعتيم والتسلط الأمني إلا تسلق الصخور المتهالكة والمرور عبر أزقة ضيقة حتى نصعد إلى أعلي .. في رحلة تسلقنا للصخور قابلنا "رضا معتمد" أحد المسئولين في معسكر الإغاثة بالمنطقة المنكوبة الذي قص علينا مدي تردي الوضع وانتشار البلطجية واللصوص الذين لا يراعوا حرمة الأموات. أخبرنا رضا في استياء بالغ بكارثة جديدة، وهي مشاركة بعض البلطجية واللصوص المسجلين خطر في عمليات الإنقاذ على أنهم من أهل المنطقة ومن المتضررين بحجة المساعدة في الإنقاذ وأن أقاربهم تحت الأنقاض، وذلك للقيام بعمليات السرقة والسطو على الجثث التي يتم انتشالها من تحت الأنقاض. فبعض الجثث من السيدات إذا كانت ترتدي أي مصوغات ذهبية أو معها أي نقود يقومون بالإستيلاء عليها وسرقتها على مسمع ومرئي من قوات الأمن - على حد قوله- دون تدخل منهم أو من قوات الدفاع المدني لأنهم يقومون بهذا من خلال تهديدهم للأهالي وقوات الدفاع المدني بالسنج والمطاوي. لم يقف الأمر عند هذا الحد بل وصل بهم إلى أنهم يعتدون بالفعل على الأهالي الذي جاءوا لإنتشال جثث أقاربهم من تحت الأنقاض وسرقتهم، في وجود أكثر من ألف فرد من وزارة الداخلية وقوات الأمن، لدرجة أن قوات الدفاع المدني تترك الجثث لهم بعد إنتشالها ويغضون الطرف عن البلطجية حتى ينتهوا من سرقتها خوفا من بطشهم ثم يبحثوا عن أهلها لتسليمهم جثث ذويهم، ولا يجد أهالي الجثث الذين يتم تهديدهم بالسلاح بداً من استلام الجثث في هدوء بدلا من الدخول في صدامات مع البلطجية، وتتزايد عملية نبش ونهب الأموات أكثر بدأ من الساعة الثانية ليلاً وحتى قبيل الفجر. تسلقنا إلى أعلي هضبة المقطم .. كانت الصخور تتفتت تحت أقدامنا .. وهناك قابلنا إحدى السيدات التي حكت لنا الحادثة وكيف أنها تعيش هي وأسرتها وأهل المنطقة في ظروف صعبة للغاية حيث تسكن فوق حافة الجبل المنهار، أخذتنا إلى منزلها المليئ بالشقوق، كل شق فيه كالطود العظيم، ولها ثلاثة أطفال يعيشون في رعب مستمر لدرجة أن الأطفال يستيقظون مفزوعين بالليل، ولا تستطيع أن تفعل شئ .. فليس لها مكان أخر، وقالت: "الحكومة ضحكت علينا وإحنا صدقناها لما نقلتنا هنا بعد زلزال 1992 .. قالولنا ده مكان مؤقت لحد ما تسلمنا شقق جديدة، ومن ساعتها مشفناش حتى أوضة، وسايبنا هنا وعيالنا للموت". خرجنا من بيتها .. سرنا قليلا حتى التقانا عدد من الأهالي .. تهافتوا علينا كل منهم يقص قصته ومعاناته .. من بينهم عم فتحي الرجل العاجز المريض، كان يجلس على كرسي متحرك متهالك .. تساقطت دموعة لتزيد كلماته أسىً ومرارة تروي لنا مأساة جديدة .. فمنذ الكارثة وهو يعيش في العراء رافضاً أن يذهب إلى خيام الإيواء العاجل التي أقامتها الحكومة الموقرة، فقد انتقل إليها الكثير من البلطجية والمجرمين من منطقة "الوحايد" و"الرزاز" و"زرزار ة" وهم ليسوا من أهل المنطقة المنكوبة ولا لهم علاقة بالحادث، وادعوا أنهم من أهل المنطقة وأن لهم بيوت فيها حتى يفوزوا بإحدى الشقق التي وعدت الحكومة بمنحها للأهالي المنكوبين. هؤلاء البلطجية كانوا يقومون بالاعتداء علي من ينتقلون إلى خيام الإيواء بالسرقة ومحاولات الاغتصاب لبناتهم، مما دفعهم إلى أن يعيشوا في العراء وسط الخطر على حافة الجبل بدلاً من خيام الإيواء، وقال عم فتحي: "نقعد في الخلا أحسن ما بناتنا تضيع في خيم الحكومة إللى ماشوفناش معاهم الأمان". تزايد إقبال الأهالي علينا والتفوا حولنا .. كل منهم يريد أن يقص علينا مأساته، ووسط حكاياهم ظهر اثنان من ضباط الأمن برتبة نقيب ومقدم، هرعا إلينا ليمنعانا من التصوير والاستماع إلى مأساة الأهالي، كان فعلهما هذا بمثابة استفزاز للأهالي حيث ثاروا في وجههما وكالوا لقوات الأمن الاتهامات بالإهمال والتقصير وعدم المبالاه .. استدعانا أحد اللواءات بعيدا عن الأهالي .. وطلب منا الإنصراف لأن "التصوير ودخول الصحفيين ممنوع" .. انصرفنا بعدها وكان الأهالي في انتظارنا .. لم نستطع أن نكمل معهم أو نستمع إلى كل حكاياتهم ومئاسيهم .. ولكننا على ثقة أنها أكثر من ذلك بكثير. الإحساس بالظلم وعدم الاهتمام من المسئولين جعل من منطقة الكارثة ساحة للمواجهات بين الأهالي ورجال الأمن والمسئولين خاصة بعد وصول عدد القتلي إلى أكثر من 55 قتيلاً، حيث قذف المنكوبون وأهالي الضحايا في منطقة الدويقة الحجارة على محافظ القاهرة، ورؤساء لجنتي الإسكان والإدارة المحلية، وأعضاء مجلس الشعب الذين تفقدوا موقع الكارثة يوم الثلاثاء، وأعلنوا إضرابا مفتوحاً عن الطعام، ومنعوا دخول سيارات الإعانات إلي المخيمات. فما أن حضر مسئولون من حي منشأة ناصر إلى موقع الكارثة حتى التف حولهم مجموعة من الضحايا ووجهوا لهم اتهامات بالكذب وإطلاق تصريحات كاذبة لوسائل الإعلام، حول تسليم الفين وحدة سكنية ووقعت مشاجرة خارج الكردون الأمني، ردد الأهالي خلالها الشتائم واللعنات ضد المسئولين. ثم فوجئ أعضاء اللجنة البرلمانية التي شكلها الدكتور فتحي سرور رئيس المجلس، لإعداد تقرير عن حجم الكارثة، لعرضه علي المجلس صباح الخميس، بمحاصرة الأهالي بطلباتهم، التي تتلخص في ضرورة إنقاذ نحو 400 شخص مازالوا تحت الأنقاض حتي الآن. وحينما هم الدكتور عبدالعظيم وزير محافظ القاهرة بالوقوف أمام كاميرات التليفزيون المصري، للتصوير في موقع الحادث، انهالت الحجارة من كل مكان وارتفعت أصوات الأهالي بالسباب والشتائم للمسئولين، وحاول حيدر بغدادي نائب الدائرة تهدئة المواطنين، فزادت ضرباتهم، العشوائية المصحوبة بالشتائم وأصابت بعضها اللواء ماهر الدربي رئيس لجنة الإدارة المحلية وطارق طلعت مصطفي رئيس لجنة الإسكان كما أصيب عقيد شرطة بجرح في رأسه ورائد شرطة بجرح في جبهته. وهرول جميع المسئولين إلي مخيم للأمن المركزي، طلباً للحماية من الأهالي. وكالعادة لم تستطع قوات الأمن تفويت الفرصة دون الاعتداء على الأهالي المنكوبة فقامت بالقبض على عدد من الأهالي بتهمة إثارة الشغب .. لم تنته المواجهات عند هذا الحد .. حيث قام عدد كبير من شباب المنطقة بعمل كردون موازي للكردون الأمنى الذي يحاصر المنطقة وحملوا في أيديهم الشوم والأخشاب وبعض الأسلحة البيضاء مستعدين للدخول في معركة حامية مع رجال الأمن إذا لم يقوموا باستخراج جميع الجثث المطمورة تحت الأنقاض، خاصة وأن قوات الدفاع المدني التي تقوم بعمليات انتشال الجثث تتجه حاليا إلى إنهاء عمليات الإنتشال وتقوم بردم المنازل المنهارة فوق جثث ساكنيها دون انتشالها سعياً لجعل المنطقة "مقبرة جماعية".
صور التقطها مندوب محيط تبين حجم الكارثة :
إقرأ أيضا : مصر.. تحويل الدويقة لثكنة عسكرية ومخاوف من كارثة وبائية أنباء عن إغلاق منطقة الدويقة وتحويلها لمقبرة جماعية رائحة الموت تفوح من الدويقة والقذافي يبني مدينة للمنكوبين مطالب بإقالة الحكومة المصرية على خلفية كارثة الدويقة كارثة الدويقة: الأهالي يتهمون الحكومة بالتقصير في إنقاذ الأحياء بعد أن فاض بهم الكيل..سكان الدويقة يبدأون انتفاضة ضد قوات الأمن سكان الدويقة .. معاناة ينهيها الموت تحت الأنقاض