صدر حديثا عن مؤسسة شمس بالقاهرة، المجموعة القصصية الأولى للشاعرة والقاصة الفلسطينية يسرا الخطيب بعنوان "والبحر يعطش أحيانا". تقع المجموعة في120 صفحة من القطع المتوسط، وتضم 37 نصًا قصصيًا توزعت تحت عنوانين جامعين، الأول "حافة الانتظار" ، والثاني "أوراق ملغومة"، لتتكامل النصوص في بانوراما سردية تعرض مكابدات الفلسطيني. ويبدو في قصص المجموعة هاجس التجريب المتكئ على إطلاع واسع ومعمق على تجارب الغير، والمعرفة الثرية المختزنة في وعي الكاتبة، حيث تتجلى قدرتها على توظيف اللغة ومناخ الشعر والاندياحات وتيار الوعي وعلاقات الذاكرة بالتاريخ والمكان والزمان، والحذر الذكي عند تجاور الأفعال باندغام الماضي بالحاضر، واستشراف الآتي/ المستقبل بإرهاص الحاضر اليومي، وزوايا التقاط تفاعلات الذات الفردية مع الهم الجمعي العام، وذلك من خلال إعادة إنتاج الواقع بالقفز عنه بعد تمثله واستيعابه وترويضه بوعي في فضاءات الكاتبة الداخلية، وتفجيره بتلقائية محسوبة، من خلال مكابدات الراوي/ السارد الذي غالبا ما يكون المرأة الكاتبة، والتي لا يغريها بريق وبهرجة الكتابة النسوية شرطًا للتميز، بقدر ما تكون شاهد إثبات على حالة تطرحها من زوايا مفاجئة ومدهشة. من المجموعة نقرأ قصة "هو والبحر": منذ أن عقد صداقة معه؛ وهو يشعر دوماً بحاجته الماسة إليه.. يذهب ليلقاه بشوق غامر.. ليبادله الآخر شوقًا مماثلاً.. فيحتضن خطواته القوية أحيانًا والمترددة أحايين أخرى.. يبقى متسائلاً: لماذا جئت إلى هنا.. هل من جديد؟! يفترش رماله الناعمة، ويتكئ على بقايا مركب قديم.. رحل عنه صاحبه وبقي هو على الشاطئ يستقبل زائريه.. ويودع الراحلين. يهيم بنظره إلى الأفق الممتد بعيدًا.. كان يعتقد في طفولته أنه نهاية العالم.. اليوم يرى أمامه عالمًا آخر.. ينظر من خلاله بشوق وحنين إلى المجهول. يسرح بخياله إلى عوالم أخرى غير عالمه.. متسائلاً: كيف يعشقون البحر؟ هل لديهم وقتنا الفارغ للانتظار على أعتابه ساعات ممتدة عبر أيامنا التائهة وساعاتنا المتبددة؟.. أم كما نراهم في الأفلام مقتحمين له مجدفين في عمقه.. يمتشقون الأمواج بلا خوف ولا رهبة. وحده يرتد إلى داخله ليفتش عن أسبابه وخوفه، وعن كم الممنوعات المحيطة بدقائقه.. فيستحضر عقله الحقيقة.. تنظر عيناه المحملقة إلى اللائحة المنصوبة أمامه كشاهدٍ على قبر أمانيه وأحلامه: " ممنوع التوغل لأكثر من 5 كم ". إنها موضوعة ضمن قائمة الممنوعات، والتي على الصيادين الالتزام والتقيد بها.. ويبقى هو في مكانه على الشاطئ متحسرًا، ممنوعًا من ممارسه هواياته.. وليتمنى في تلك اللحظة لو يمتلك قارب صيد لينقذه من جلسته المذهولة والخائبة.. ويدفع به مجدفًا للأعماق... يجلس هناك بخياله يتحدى الممنوع وخيباته الكثيرة.. وعيناه تتجاوز لائحة الموت.. ومن ثم ينظر للفضاء الأزرق متفائلاً بلونه الذي لم يتغير برغم الحصار، كباقي الأشياء التي تموت وتتبدل على اليابسة. يبقى البحر زاخراً بمده، والفضاء شاسعاً بفضاءاته.. تحمل رياح الكون غيمات راحلة من مكان بعيد لتلقي بحملها بين أحضان هذا البحر الرءوم.. فيتلقاها بشوق بالغ.. ويسأل: هل من مزيد ؟! وهو يبقى أمامه صامداً ومتفرجاً ومراقباً، ليمارس لعبة عد الأمواج القادمة، وانتظار ما هو جديد.. ينسى العد ليبدأ من جديد، ولا يمل الانتظار. تمتد الأمواج مرارًا لتسحب حبات الرمل من تحت جسده المنهك.. فتتحرك به الأرض لتشعره بزحفٍ وهمي للأمام فتدغدغ حبات الرمل المبتلة جانبه ويبلل الموج الزاحف أقدامه الجافة. وينتظر المد الأوفر، والجزر الأعظم.. ليحمله بقوة من مكانه الميت ويلقيه في عباب البحر.. ويطول الانتظار.. ولا يحظى إلا بتلك الدغدغة الناعمة لأطرافه المتيبسة.. ويستمر هو في مكانه كمتفرج.