تشكل رواية "وحيداً في العتمة" الصادرة عن دار "آكت سود" للكاتب الأميركي بول أوستر، ظاهرة في مبيعاتها بباريس حالياً. ووفقا لكوليت مرشليان بصحيفة "المستقبل" اللبنانية، يغوص المؤلف في موضوع شديد الحساسية من وحي واقع سياسة أميركا ومجتمعها اليوم، فيتخيّل في روايته هذه أن حرباً أهلية وقعت في الولاياتالمتحدة الأميركية وتحديداً عبر شخصيته الرئيسية أوغست بريل وهو ناقد أدبي شهير ومتقاعد يتعرض الى حادثة تصيبه بإعاقة معينة، فيلزم منزله ويتوقف عن العمل وبالتالي في هذه الراحة الإجبارية يعاني أرقاً متواصلاً. وكل ليلة، ما أن تحل العتمة أو الظلمة يركن الى ذكرياته ويسترجع الإحباء والأصدقاء الذين ماتوا. وليتمكن من السيطرة على الأفكار السوداء يلتجئ الى التخيّل وإلى إعادة كتابة التاريخ على هواه. إنما هو يختار الزمان الذي يناسبه والظروف الملائمة لذكرياته وتخيله ويمضي معه القارئ في رحلة عبر العالم الذي اخترعه، فهو يحدد تاريخ الحاضر إنما في أميركا لم تتعرض الى حادثة 11 أيلول وتحت حكم جورج بوش الإبن وحيث أن حدث وصول أوباما الى الحكم لم يحدث بعد. في هذا الإطار ينطلق بطله أوغست بريل في رحلة ما في الواقع والخيال. والبطل أوغست يستعين بشخصية ثانية يستعيض فيها إعاقته وعدم قدرته على التجوّل فيمشي هذا الآخر بدلاً منه وهم أوين بريك. يستفيق ذات يوم أوين ويجد نفسه محشوراً في فجوة عميقة أو نفق ما ببدلته العسكرية من دون أن يتمكن من تحديد المكان. هو لا يتذكر شيئاً ولا يتذكر المكان. وحين يتمكن من الخروج من الفجوة التي كان محشوراً فيها يجد نفسه في شارع يخرج منه الى مدينة مهشمة حيث تدور معارك وحروب ولا سيارات في الطرقات. وحين يسأل عن أحداث 11 أيلول وأيضاً عن حرب العراق يفهم أن الحدثين لم يحصلا، بل أن حرباً أهلية تجري في الولاياتالمتحدة الأميركية. ومن الرواية تنقل صحيفة" المستقبل" بعض الفصول الى العربية فنقرأ: "وحيداً في العتمة، أدير وأدير العالم في رأسي محاولاً ومستجدياً ليلة جديدة من الأرق حيث أمضيها في الصحراء الأميركية الكبيرة. في الطابق العلوي، تنام إبنتي مع حفيدتي وحيدتين، هما أيضاً وكلّ واحدة في غرفتها: ميريام، 47 عاماً هي ابنتي الوحيدة وتنام وحدها منذ خمسة أعوام، وكاتيا، إبنة ميريام الوحيدة أيضاً، 23 عاماً وهي نامت فترة طويلة الى جانب صديقها الشاب تيتوس سمول، غير أن تيتوس مات وكاتيا تنام وحدها الآن وقلبها ممزّق. ضوء ساطع ثم تليه عتمة. الشمس تلقي بشعاعها من كل زوايا السماء ثم تليها ظلمات الليل، والنجمات الصامتة وتمتمات الهواء فوق الأغصان. إنه أمر روتيني. مضى عام كامل على سكني هنا في هذا المنزل أي منذ أن غادرت المستشفى. أصرّت ميريام على مجيئي الى هنا ولم يكن هناك أحد غيرنا نحن الإثنين مع ممرضة النهار التي كانت تعتني بي حين تكون ميريام في العمل. وبعد نحو ثلاثة أشهر، هبطت السماء على رأس كاتيا فتركت دراستها في نيويورك في مجال السينما وعادت لتسكن عند والدتها في فيرمون. كان والداه قد أعطياه إسم إبن الرسام رامبرنت، ذاك الصبي الصغير في اللوحات، ذاك الولد الذي يضع قبعة حمراء فوق شعره الذهبي، وهو أيضاً ذاك التلميذ الذي يحاول ان يفهم دروسه وهو ايضاًُ ذاك الشاب الصغير الذي افترسه المرض ومات في العشرين تماماً مثل تيتوس كاتيا. انه اسم قدري، اسم علينا الغاء استخدامه من الآن فصاعداً ! افكر دائماً في موت تيتوس، في قصة ذاك الموت الرهيب في صور ذاك الموت، وفي نتائجه الهائلة على حفيدتي المسكينة، ولكن لا اريد ان امضي في تفاصيل هذه القصة الآن، لا استطيع ان امضي في هذه القصة وعلي ان ازيحها غير قدر المستطاع. الليل في بدايته، وانا ممدد فوق سريري ونظري تائه في العتمة من فوقي، عتمة كاملة تجعل السقف غير المرئي رحت اتذكر القصة التي كنت قد بدأتها في الليلة السابقة. هذا ما أفعله حين اعصى عن النوم او حين يرفضني النوم. وانا ممدد في سريري رحت أسرد على نفسي القصص. هي ليست ربما قصصاً ذات قيمة غير انها تمنعي من التفكير في امور اريد ان انساها ما ان اغوص فيها. مع هذا، فان التركيز يبقى من الامور الصعبة اذ غالباً ما اجد نفسي منساقاً تلقائياً خارج اطار القصة التي احاول ان ارويها متجهاً صوب المواضيع التي احاول نسيانها. لا شيء ينفع. وها انا امضي من فشل الى فشل، ونسبة الفشل تتغلب دائماً على النجاحات لكن هذا لا يعني ان اتخلى عن قوتي وارادتي. لقد وضعته في حفرة. اجد في هذا التفصيل بداية حسنة او اسلوباً واعداً لأضع الامور في نصابها. ان نضع رجلاً نائماً في حفرة ثم مراقبته ومعرفة ما سيحصل حين يستيقظ ويحاول الخروج. اتحدث عن حفرة كبيرة في الارض، عميقة الى حدود الثلاثة امتار ومحفورة بطريقة تشكل منها دائرة كاملة مع جوانب مالسة من الطين السميك والمكدس بعناية، وهي جوانب قاسية وكأنها من زجاج. اقول هذا لاشرح كيف ان هذا الرجل حين فتح عينيه لم يتمكن من الخروج. على الاقل تلزمه معدات متسلقي الجبال من مطرقة ومسامير فولاذية مثلاً او حبل ليتمكن من الصعود والتمسك بشجرة كبيرة، غير ان الرجل لم يكن مجهزاً وما ان استعاد وعيه حتى فهم صعوبة وضعه... واليكم ما جرى. عاد الرجل الى وعيه ووجد نفسه ممدداً على ظهره وعيناه شاخصتان بسماء قاسية لا غيوم فيها. اسمه اوين بريك وهو لا يملك اي فكرة عن السبب الذي ادى الى تواجده في هذا المكان ولا اي ذكرى حول كيف وقع في هذه الحفرة الدائرية التي يصل قطرها الى اقل بقليل من الاربعة امتار. جلس. وكانت المفاجأة حين وجد انه يرتدي لباساً عسكرياًَ ضخماً رمادي اللون ويعتمر قبعة على رأسه وينتعل حذاء عسكرياً ضخماً من الجلد الاسود مربوطاً ما فوق كاحليه بربطة معقودة بشكل قوي. وعلى كل واحد من كمي الجاكيت رمزان يشيران الى ان البدلة تخص عسكرياً برتبة عريف. قد يكون هذا الرجل في الحفرة اوين بريك، لكن اوين بريك لا يتذكر انه خدم في الجيش ولا انه شارك في القتال في اي حرب وفي اية مرحلة من حياته. وحين لم يجد تفسيراً آخر اقتنع انه لربما تلقى ضربة على رأسه افقدته ذاكرته لفترة معينة".