بعض الكتب الدينية مجهولة المصدر والهوية تؤكد على حرمة الفن بل تذهب بفكرها القمعي بعيداً بأن الفن شرك بالله وكفر بيِّن ، ومن هذا المنطلق فجميع الفنون حرام لأنها أولاً تلهي عن ذكر الله ، بالإضافة إلى أنها من وساوس الشيطان التي تبعد المرء عن ربه ، وبشأن فتاويهم دار الجدل الطويل بين المتزعمين لتكفير الفنون ، وبين المستنيرين من رجال الدين الذي لا يرون حرمة أو شركاً في الفنون التي تبعث الجمال بالوجدان وليس من شأنها أن تبعد المرء عن ربه في عباداته وفرائضه المكتوبة . ولكن تجد في سياق هذه الكتابات مجهولة النسب والسند من يشير إلى وجود ما يسمى بالفن الإسلامي ولكن متجنبين كلمة الفن ليضعوا مكانها كلمة عمل ، وهم يقصدون بالطبع العمارة الإسلامية التي تتمثل في النقوش والزخارف والرسوم المجردة من التجسيد ، لذا فلا وجود للأنواع الأخرى من الفنون التي ارتبطت بالفن الإسلامي مثل الرسم والنحت والموسيقى وأخيراً الغناء أو الإنشاد. ولا يستطيع منكر أن ينسى الدور الذي لعبه الفن الراقي البعيد عن المشاعر الرخيصة المبتذلة ، حين ساهم في تأجيج مشاعر المصريين للمشاركة في ثورتهم الشعبية ، وكم كان الفن باعثاً لاستمرارية الثورة ورغم ذلك الحضور الطاغي للفن لم نجد ساعتها من أولياء التيارات الدينية من يحرمه أو أن ينكر دوره بالقول أو بالفعل . لكن ، ماذا يحدث لو غيرت مصر وجهتها المدنية وسقطت في أيدي التيارات المتشددة ؟ هذا سؤال لابد وأن يطرح استشرافاً لمستقبل قد يبدو غامضاً بعض الشئ ، ولا يستطيع شخص أن يتنبئ بإحداثيات هذا الوطن في ظل حالات الالتباس والغموض التي تعتريه . فهل حينئذ سيتم القضاء على هذا الرصيد التاريخي للفن في مصر ؟ . ولقد تناقلت معظم الوسائط الإعلامية خبراً مفاده صدور حكم قاطع بحبس الفنان الزعيم عادل إمام ثلاثة أشهر وتغريمة ألف جنيه نتيجة الدعوى القضائية التي اتهمته بالإساءة إلى الدين الإسلامي وإزدرائه له في أعماله السينمائية تحديداً في أفلامه الإرهابي والإرهاب والكباب ومرجان أحمد مرجان، بالإضافة إلى مسرحياته التي تضمنت تلميحات مسيئة للإسلام . والحق أقول إن من يدعي لنفسه امتيازاً للدفاع عن الإسلام فلينتبه إلى مزاعم المستشرقين ومطاعنهم في الدين ، أما المزايدات الإعلامية التي انتشرت في مصر الآن نتيجة ركوب موجة صعود التيارات الدينية فهي محاولة لإيجاد مقعد وثير لفئة باتت محرومة من التواجد داخل أنساق المجتمع لفترات طويلة . وكم هو مضحك عندما يفاجئ الفنانون أنفسهم أولئك المدعين بالانتماءات الدينية بأنهم أعلنوا توبتهم عن أعمالهم التي قدموها ، فماذا سيفعل إذن أولئك الموتورين حينما لا يجدون قضايا يدغدغون مشاعر البسطاء بها ويدخلونا في قضايا ترهق عقل الوطن الذي هو بحاجة ماسة لفكر واضح ورأي سديد .وليت هؤلاء الذين أعلنوا وصايتهم على نشر الفضيلة في المحروسة تيقنوا من حجمهم حينما علموا حجم وكم التيارات والائتلافات والحركات التي أعلنت تضامنها مع عادل إمام في قضيته التي لا محل لها من الإعراب في نص بات مشوهاً لغوياً أقصد مصر الجميلة . وإذا كان المتشددون قد أضافوا لأنفسهم دوراً جديداً في المشهد الاجتماعي المعاصر وهو دور المخرج لذلك أعلنوا إنهاء المشهد الحالي ، فكان عليهم أن يقدموا لنا تصوراً واضحاً في صورة مكتوبة عن رؤيتهم للفن ، وإذا كان حراماً أو ضلالاً بائناً ، فإنني أطالبهم بصفة استثنائية أن يقترحوا لنا بدائل ترويحية لا تخرجنا من باب الفضيلة ولا تزهق أرواحنا من الفتنة ، وأعتقد أنهم لا يجيدون ذلك لأن من اعتاد الرفض والقمع لم يعتاد على التجديد والإبداع . ولو أننا أجهدنا أنفسنا للحديث عن دور الفن في حياتنا بأنه كذا وكذا لن نفعل شيئاً مع هؤلاء الذين لايزالوا أسرى عقد التكفير والغلو فيه وإطلاق صيحات تفسيق الفن والإبداع بوجه عام ، مع اعتراضنا على بعض ما يقدمه فنانو هذا الزمان ومنهم عادل إمام نفسه ، ولكن ينبغي أن نشير إلى حقيقة فقهية بالغة الأهمية وهي أن هناك قاعدة تقتضي بأن التكفير حكم شرعي من أحكام الدين له أسبابه ، وضوابطه، وشروطه، وموانعه، وآثاره. وهذه القاعدة لا ترتبط بدين معين، أو مله بعينها، والتكفير حق لله فلا يكفر إلا من كفره اتلله الله المطلع على ما في الصدور، والشهيد على أعمال عباده من البشر ، وثبوت الكفر على المرء أمر لا يثبت إلا بدليل شرعي متفق عليه، سواء من النص، أو بإجماع العلماء والفقهاء كافة، وليس القلة منهم. حقاً إن الفنون جميعها في مرحلة استثنائية في ظل هذا التصاعد غير المحمود للأفكار التي باتت غير صالحة هذه الأيام ، الفنون التي تحيا في ظل الحريات بعض التيارات تحاول وأدها بطريقة مفجعة وحشية ، لذا سيبقى هناك جدل واسع وصراع مستدام بين حالة راهنة ؛ مبدعون يشكلون وجهاً لهذا الوطن ، ومخرج متطرف لا علاقة له بالفن الخام ولا بما يحدث في مصر من الأساس ، كل ما يعنيه هو أن يتقمص دور المخرج فيصرخ بصوت عال دونما علم أو رؤية : اقطع المشهد ، واقمع ممثلينه.. الدكتور بليغ حمدي إسماعيل