"الثيوقراطية" مصطلح يوناني مشتق من كلمتين: "ثيو" وتعني الدين و"قراط" وتعني الحكم، أي أن الدولة الثيوقراطية هي الدولة الدينية التي تستمد شرعيتها وشريعتها من الإله. وقد نشأ هذا المصطلح في القرن الأول الميلادي لوصف الحكومة القائمة عند اليهود آنذاك، إذ لم يكن اليونانيون يعرفون غير ثلاثة أنواع من الحكم حتى ذلك الحين: الملكي والأرستقراطي والفوضوي. ثم حدث خلط كبير بين مفهوم "الثيوقراطية" ومفهوم "الهيرقراطية" والذي يعني حكم الكهنة الذين كانوا يستندون في شرعيتهم إلى معرفتهم بالكتب المقدسة واستغلالهم ذلك النفوذ الروحي في بناء عروش استبدادية فصلتهم شيئا فشيئا عن الشعوب التي ائتمنتهم بما لهم من رصيد روحي على المقدسات والمعايش. استغل المتحدثون باسم الإله الكتب المقدسة في إضفاء هالة من القداسة على شخوصهم وطقوسهم وشعائرهم، ثم تجاوزوا السلطات الدينية التي مكنتهم من عروش القلوب والعقول إلى الكثير من السلطات المدنية ليتحكموا في مصائر العباد ورقابهم، وهكذا فسدت الحياة وفسدت العقائد، وكانوا على موعد مع ثورة ناهضة اقتلعت عروشهم وممالكهم من قلوب الناس وعقولهم وألزمتهم إقامة جبرية في صوامعهم وكنائسهم حتى الموت. وحين جاءت شريعة الإسلام بمفاهيمها الثورية، ساوت بين عالم الدين وعالم الفلك وبائع الفل في إشارات المرور في كافة الحقوق والواجبات، بل ساوت بين المسلمين وغيرهم في حقوق المواطنة، وقد ضُرب عمر ابن الخطاب في ذلك مثلا حين استدعى عمرو بن العاص وابنه من مصر إلى المدينة في زمن لم يعرف فيه الناس المواصلات الآلية ليقتص لابن فلاح قبطي من ابن والي مصر ويسجل عبارته الخالدة على مر الحريات: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" حين ولي أبو بكر الخلافة أراد أن يسد فراغات العقول وتجاويف الأسئلة المتعلقة بطبيعة الحكم بعد رحيل النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته، فلا طاعة لي عليكم." أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يعلنها صراحة أن لا هيرقراطية في الدين، وأن الحاكم فرد من الناس يصيب ويخطئ، فلا عصمة لأحد من الزلل حتى وإن كان بحجم ثاني اثنين زُكي من فوق سبع سماوات، واصطُفي من الناس بالصحبة والإمامة. ولا تعارض أبدا بين هذا الفهم وما ورد عن النبي من أمر بالسمع والطاعة لولاة الأمر وإن أخذوا المال وجلدوا الظهر كما يصور بعض الخبثاء، فالعبرة هنا بتقوى الحاكم وتطبيقه لشريعة الله، وإلا لما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة الحق عند سلطان جائر من أفضل مراتب الجهاد، وهي تعني فيما تعني الرفض وشق عصا الطاعة. لا عصمة إذن في هذا الدين إلا لمن اعتصم به، ولا طاعة لسلطان إلا بقدر طاعته لله. ولا معنى إذن للخوف من نشوء حكومة إسلامية تُحكم بالإسلام وتَحكم بالإسلام قوما مسلمين. ولا غضاضة أبدا في سمع وطاعة لقوم يريدون أن يحكِّموا شريعة الله في أرض الله. ولا معنى إطلاقا لخروج بعض شباب الثورة على بعض الرموز الإسلامية في عصر نريد أن عنان حرية الفكر والرأي والمعتقد لهاجس خوف من قيام دولة ثيوقراطية تأباها الشريعة وينكرها المشرع. لسنا محاكم تفتيش لنحاكمهم على النوايا في تهم قد لا يرتكبونها أساسا، فإن ساروا على الدرب وصلنا معهم، وإن حادوا قومناهم بثوراتنا التي يجب أن تظل في أغمادها ما بقيت في الصدور حياة.